يروي سفير دولة عربية فاعلة ومؤثرة في لبنان بشيء من التهكّم كيفية تعامل كبار المسؤولين اللبنانيين مع السبل لإيجاد الحلول المطلوبة للأزمة القاسية التي تكاد تخنق لبنان. ويروي السفير انّه سمع إجابات لا مبالية، وتغلب عليها الأنانية وتتراوح بين الذي يراهن على تعب المتظاهرين وبين الواثق بأنّ الأمطار والعواصف ستتكفّل بخروج هؤلاء من الشارع، وبين الذي يأمل في أن تنفجر التناقضات بين مجموعات الحراك ما سيؤدي الى قلب الصفحة.
 

في الواقع فإن كبار المسؤولين في لبنان لم يقتنعوا بعد أنه بصرف النظر عن حجم التظاهرات أو أعداد المتظاهرين، إلا أنّ ثمة شيئاً اكيداً قد حصل وهو أولاً تبدل ذهنية تعامل الشارع اللبناني بكل مذاهبه واطيافه مع الطبقة السياسية الحاكمة.

وثانياً كسر الهالة او الحاجز الذي كان يفصل بين الناس ومكوّنات الطبقة السياسية بعد فقدان الثقة فيها بشكل كامل.

ومن أهم استنتاجات انتفاضة الشارع خلال الشهرين المنصرمين هو خروج الناس عن الطاعة العمياء لشعارات الأحزاب والقوى السياسية. وفي دلالة معبّرة فإنّ أحد استطلاعات الرأي خلال الاسابيع الماضية لحظ وجود نسبة 65% من اللبنانيين عند مختلف الطوائف والمذاهب مؤيدة للمتظاهرين ومعارضة للأحزاب، في مقابل حوالى 35% مؤيدة للأحزاب.

مع العلم ان هذه النسبة تتبدل عند الذهاب الى دراسة وضع كل مذهب او طائفة على حدة، حيث تصل نسبة المعارضين للأحزاب عند المسيحيين مثلا الى حوالى 75%.

من الواضح ان لبنان يعيش منذ 17 تشرين الاول الماضي مرحلة انتقالية من المفترض ان تمهّد لولادة لبنان جديد.

هيبة الدولة في ادنى درجاتها وهي نتيجة طبيعية لانعدام الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة، مضافاً اليها وصول الازمة المالية والاقتصادية الى درجة مرعبة وسط اتهامات واسعة للفساد «الوقح» الذي يسود أرجاء السلطة. ومن هذه الزاوية يسعى المؤتمر الدولي حول لبنان الى الانخراط في ترتيب المرحلة الانتقالية، وصولاً الى رعاية ولادة سلطة جديدة في مرحلة لاحقة وفق ادبيات وسلوكيات جديدة. بالتأكيد ليست المسألة بهذه الطوباوية، اذ انّ هنالك اثماناً سياسية مطلوبة انسجاماً مع المناخ الاقليمي العام.

وعلى سبيل المثال، فإنّ مصادر ديبلوماسية تتحدث بصوت خافت عن ودائع مالية خليجية قيد التحضير وقد تتجاوز الـ6 مليارات دولار حيث الخزينة اللبنانية بأمسّ الحاجة اليها، لكن بعد تشكيل حكومة تحظى بالمواصفات المطلوبة، وهي النقطة التي تثير صراعات بعضها معروف وبعضها الآخر مكبوت داخل الحلف الواحد.


صحيح أنّ الرئيس سعد الحريري لا يزال يعلن عند كلّ مناسبة انه لن يقبل إلّا بتشكيل حكومة تكنوقراط صرف، إلا ان العارفين يؤكدون أن موقفه هو تفاوضي، وأنه في نهاية الأمر سيوافق على حكومة مطعمة بسياسيين شرط ان يكونوا وزراء دولة، والأهم ان تكون الحقائب الأساسية خارج ايّ تسمية او تأثير الاحزاب السياسية، والمقصود هنا بالحقائب الاساسية تلك التي تتولى المشاريع المالية الكبرى والاساسية مثل الطاقة والاتصالات والمال الخ..

وهذا الكلام يتقاطع وما المحت اليه مراراً وتكراراً العواصم الاوروبية، وخاصة باريس، والقائل إنّ التجربة وراء التجربة اثبتت فشل الأحزاب في الحد من موجة الفساد، بل على العكس، اضافة الى تحايلها على الاصلاحات التي تضبط الاستهتار المالي مثل التمنّع الدائم لتعيين الهيئات الناظمة في قطاعي الطاقة والاتصالات، أو في أفضل الأحوال السعي لإصدار قانون جديد عن مجلس النواب يعدّل في صلاحيات الهيئات الناظمة، وبالتالي افقادها دورها.

ووفق هذا الكلام فإنّ العواصم الغربية لن تقدم على المساعدة الا بهذه الشروط، مع ارسال اشارات تطمين سياسية لـ«حزب الله» بإشراكه سياسياً في الحكومة عبر الوزير محمد فنيش. والمطلوب هنا ليس فقط طمأنة «حزب الله»، بل أيضاً تأمين حصانة ودفاع للحكومة التي يجب أن تعمّر للقيام بما هو مطلوب منها. ووفق المنطق نفسه فإنّ من الافضل عودة سعد الحريري ولو في هذه المرحلة لتأمين حماية للحكومة في الشارع السنّي بعد المواقف التي ظهرت مع اعتذار سمير الخطيب، شرط الا يؤدي ذلك الى تعيين وزراء للحقائب الحساسة محسوبين على هذا او ذاك.

هذا الواقع وضع الوزير جبران باسيل في موقع صعب، فبعدما أمل في حكومة تخرج الحريري معه من خلال ترؤّس الخطيب لها، وبالتالي تخفيف الاوزار المعنوية عنه، صاغ حكومة اعطته امكانية تسمية وزراء تكنوقراط لعدة حقائب ابرزها الطاقة. لكن سقوط مشروع حكومة الخطيب كان قاسياً، وحمل الكثير من الالتباسات. فالثنائي الشيعي، وخصوصاً «حزب الله» يقرأ المرحلة من خلال التحديات السياسية، لذلك هو متمسك بعودة الحريري كصمام أمان لحماية المرحلة المقبلة، وهو دور سيعجز عنه اي اسم سني آخر.

وقيل إن موقف «حزب الله» هذا كان أحد الاسباب الرئيسية لدفع الخطيب الى الاعتذار، في وقت أيقن فيه باسيل أنّ استمرار «التيار الوطني الحر» في حكومة برئاسة الحريري، ومن دون باسيل، وبلا حقيبة الطاقة، انما يعني خسارة كاملة، ما يعني أنه من الأفضل البقاء خارج الحكومة.

إضافة الى ان باسيل كان قد التزم رسمياً عدم رغبته في دخول الحكومة تمهيداً لفتح الطريق أمام حكومة الخطيب، واليوم فإنّ دخول «التيار» الى حكومة الحريري من دون باسيل، سيتضمّن اتهاماً واضحاً لباسيل بمسؤوليته عن المرحلة الماضية، وبالتالي فإنَّ خروج «التيار» سيكون أفضل وأقل ضرراً، وسيسمح له ربما بالعودة الى المعارضة في سعيه لاستعادة بعض الشعبية التي خسرها، والتحضير للانتخابات الرئاسية. لكنّ الأهم توجيه رسالة الى الحليف الشيعي تحمل شيئاً من التهديد مفادها أنّ خروجه من الحكومة سيجعل الفريق الشيعي مكشوفاً، وبالتالي التنصّل من القرارات الموجعة للحكومة المقبلة وتركها على عاتق الفريق الشيعي وتيار «المستقبل» مع سياسة صارمة سينتهجها رئيس الجمهورية حيال الحكومة.

ويدرك باسيل أنّه بقرار خروج «التيّار» من الحكومة انّما يحشر «حزب الله» كثيراً كون الأخير غير قادر على الخروج والمخاطرة بفقدان مكسب سياسي منحته اياه الانتخابات النيابية الاخيرة، كما أنّه لم يعد يملك ترف فرض حقيبة الطاقة لتكون لصالح تسمية الوزير باسيل. وهو ما يعني انّ تكليف الحريري يوم الاثنين المقبل، وهو المرجّح حصوله، لن يؤدّي بالضرورة الى ولادة حكومية سريعة في ظلّ ازدياد التعقيدات وفتح جبهات صامتة الى جانب الجبهات التقليدية.