سريعاً يسعى الديمقراطيون لإزاحة الرئيس ترمب وعزله إن أمكن من مقام الرئاسة؛ ولهذا تسأل السيدة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب المسؤول عن اللجنة القضائية لإعداد لائحة الاتهام، ومن ثم إصدار مشروع قرار العزل قبل 25 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أي قبل دخول البلاد في موسم الأعياد، ولرفع الاتهام إلى مجلس الشيوخ في الأسبوع الثاني على أقصى تقدير.
تقول بيلوسي إن الرئيس ترمب أساء استخدام السلطة، وهدد الأمن القومي الأميركي، وعرّض البلاد للخطر؛ الأمر الذي يستوجب عزله في التو واللحظة.


هل بيلوسي محقة في اتهاماتها هذه؟
من الواضح أن مجلس النواب في مأزق وهم يسعون لتكييف قانوني للاتهام الموجه لترمب؛ ولهذا استحضروا أربعة من أساتذة وخبراء القانون الدستوري الأميركي؛ ثلاثة من الديمقراطيين وواحداً جمهورياً، ولا يبدو في الأفق أن هناك يقيناً بأن ما ارتكبه ترمب في مكالمته مع الرئيس الأوكراني يرقى إلى واحدة من الجرائم التي نص الدستور الأميركي على أنها تعزل الرئيس، وهي الرشوة، والإضرار العمد بالأمن القومي الأميركي، أي الخيانة العظمى، وأخيراً ما يطلق عليه الجنايات العالية، والتي تبقى تفسيراتها حتى الساعة لزجة ومطاطة، ولا سيما أن الرئيس بحكم المحكمة الدستورية العليا لا توجه له أي اتهامات أثناء فترة رئاسته، وهذا هو المتعارف عليه منذ أزمة نيكسون وفضيحة «ووترغيت» أوائل سبعينات القرن الماضي.

 


ما الذي يجري في واشنطن على وجه التحديد، وهل هي محاكمة جنائية أم سياسية، أي يمكن للمرء أن يطلق عليها محاولة تموضع سياسي برداء قانوني، يقصد منها الاختصام إلى أبعد حد ومد من فرص ترمب في البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية؟
يمكن القطع بأن ما تقوم به بيلوسي يعد فعلاً وقولاً نوعاً من أنواع المكايدة السياسية تجاه الرئيس ترمب، ولا سيما أنها تدرك إدراكاً جيداً أن فرص تمرير أي مشروع قرار عزل ضد ترمب في مجلس الشيوخ ليست محدودة، بل منعدمة، في ظل سيطرة الجمهوريين بأغلبية 67 صوتاً.

 


تاريخياً، لم يصوّت مجلس الشيوخ على عزل أي من رؤساء البلاد، وغالباً كان مرد الأمر هو حفظ مقام الرئاسة، كما أن المقاربة بين حالة الرئيس نيكسون وإشكالية ترمب غير مقبولة، فشتان الفارق بين التنصت على الحزب المناوئ بنية واضحة وتصميم وعزم أكيدين، وبين مكالمة تحتمل ضمن تفسيرات قانونية سوف يحاجج بها الجمهوريون حكماً، القول بأن ترمب كان يحث نظيره الأوكراني فولوديمير زيلنيسكي في طريق محاربة الفساد في بلاده، وصدف أن كان أحد الأطراف هو ابن المرشح المحتمل لسباق الرئاسة القادم جوزيف بايدن.

 


أكثر من مرة وفي أكثر من تصريح كانت بيلوسي تبدي رغبة جامحة وجانحة في عزل ترمب، حتى وإن كلف ذلك الديمقراطيين فرصة الفوز بالرئاسة 2020، على حد تعبيرها؛ الأمر الذي فتح باب الشكوك واسعاً للتساؤل، هل هي مؤامرة الدولة النيوليبرالية الأميركية العميقة ضد الرئيس ترمب، ولا سيما أن هذه ليست المحاولة الأولى، بعد أن أخفقوا مع ترمب من قبل في إشكالية «روسيا – غيت»؟
ما يريده الديمقراطيون هو تحويل الرئيس الأميركي وقبل عام تقريباً من الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 من بطة عرجاء إلى بطة ميتة، وتقويض شرعيته وجعله يسير على عكازين، إن جاز القول.
السؤال الجوهري: «هل المكايدات الديمقراطية تفيد في إقناع الرأي العام الأميركي بأن الرئيس مذنب؟

 


يمكن القطع تاريخياً بأن اهتمامات الناخب الأميركي غير المسيس، وهي النسبة الغالبة بجدارة، عادة ما تدور في فلك مستوى الحياة الذي يوفره الرئيس للأميركيين وأوضاع الاقتصاد الداخلي، وطالما لم تكن التهمة مخلة بالشرف أو تقترب من الخيانة العظمى، فإن الجميع سوف يغض الطرف ويعتبر الأمر مسألة شخصية، كما جرى مع بيل كلينتون عام 1998.
ولعل الناظر إلى الوضع الاقتصادي الأميركي يرى أن نسبة البطالة هي الأقل منذ خمسين سنة، وأسعار المحروقات في أدنى سلمها، ووعد ترمب بأميركا أولاً يقترب من التحقق اقتصادياً.

 


في هذا الإطار، يبقى من الطبيعي ما أظهرته استبيانات الرأي العام في الأسابيع القليلة الماضية، والتي أظهرت أن الأميركيين لا ينظرون بأخلاقية لخطط بيلوسي وصحبها، وهناك رفض واضح للتحقيق مع ترمب، ولا سيما في الولايات المتقلبة الرئيسية مثل ميشيغان وويسكونسن؛ الأمر الذي يمكن أن يكون كارثياً بالنسبة للديمقراطيين في الانتخابات المقبلة.
وبلغة الأرقام، فقد انخفضت نسبة عدد الأميركيين المؤيدين لعزل ترمب من 53 إلى 45 في المائة، بينما زادت نسبة الذين يعتبرون نشاط الديمقراطيين غير مقبول من 44 إلى 53 في المائة.
أضف إلى ما تقدم، فإنه بين الناخبين المستقلين تنخفض شعبية التحقيق بصورة أسرع، وهي الآن أعلى قليلاً من 40 في المائة، وهؤلاء هم من يقررون مصير الانتخابات، بل إلى أبعد من ذلك فقد بان جلياً في الأسبوعين الماضيين أن كثيرين من أعضاء الحزب الديمقراطي باتوا من المشككين في جدوى مواصلة مسرحية العزل.

 


ما يحدث على خشبة مجلس النواب الأميركي في واقع الحال هو مسرحة من غير مسرحية، بمعنى أن هناك ممثلين، يجرون فوق خشبة المسرح، ومن حولهم موسيقى صاخبة، واستجوابات عالية الوتيرة، وصياح من بيلوسي، واستدعاء لشهود، غير أن السيناريو الرئيسي للعزل والتهمة التي لا تصد ولا ترد غير موجودة.
الخلاصة، ترمب لن يعزل، والديمقراطيون قطعاً سيدفعون التيار اليميني الأميركي عطفاً على الشعبويين المؤيدين لترمب إلى تآزرهم من حول ساكن البيت الأبيض في ولايته الثانية المؤكدة ومن جديد.