«عودة إلى نقطة الصفر»... هكذا ببساطة انتهت آخر مناورات تشكيل الحكومة اللبنانية، بعد «حرق» ثالث شخصية كان من المفترض أن تأخذ على عاتقها مهمة فتح الكوّة المنتظرة في جدار الأزمة المفتوحة، بكل تبعاتها السياسية والاقتصادية والأمنية.
 

كلهم يريدون عودة الحريري، لكنّه يتمنّع وهو راغب. صارت اللعبة مكشوفة، والكل يجهّز «صولده» في مقامرة بات البلد كله فيها على حافة الهاوية، إن لم يكن قد بدأ الانزلاق إليها فعلاً، في ظل التحذيرات الجدّية من أنّ الانهيار الاقتصادي مسألة وقت، ما دام الإفلاس السياسي صار الحاكم الآمر في أية تسوية تلامس احتمالاتها الصفر في المئة.

ماذا بعد؟! سؤال يكاد كل لبناني يطرحه مع بزوغ شمس كل صباح، فلا يجد إجابة. حتى انّ محتكري الحياة السياسية المفلسة لم تعد لديهم إجابات، طالما أنّ كلّاً منهم ماضٍ في شق طريق اللاعودة المعبّدة بأزمة الدولار، التي اختبر معها المواطن في معيشته اليومية المعنى العملي لعبارة «العملة الصعبة»، أو بأشباح الأمن، طالما أنّ لعبة الشارع باتت سلاحاً في أيدٍ صبيانية أفقدت الحراك الشعبي معناه، كرافعة تحرّر للشعب بعد سنوات من الفجور السياسي الذي استسهل جيب المواطن سبيلاً لتمويل فساد طبقة سياسية انقلبت على ذاتها.

اذا كانت المسافة الفاصلة بين اشتعال شرارة الحراك الشعبي وبين اللحظة الراهنة تُقاس بالأيام في تلك العدّادات التلفزيونية، فإنها في حقيقة الأمر تقاس بالسنوات، كما لو أنها أصبحت ذكرى عابرة، أو حلم ليلة تشرينية دافئة. وفي جوهر الحقيقة الصارخة انّ «راكبي» الحراك صاروا أكثر من أصحاب الحراك أنفسهم، وصاغوا على حلبة الداخل مشهداً أسود جعل اللبناني يبدع في السخرية من واقعه المرير.

واهمٌ من اعتقد أنّ استشارات الاثنين الماضي كانت ستمر ببساطة، وواهمٌ أيضاً من يعتقد أنّ الموعد الجديد سيشهد انفراجاً يفضي إلى تكليف سَلس، إذا بقي أطراف الأزمة متمترسين، كلّ في موقعه، غير آبهٍ بأنّ العد التنازلي الأخير للانهيار الاقتصادي قد بدأ بالفعل، وغير مكترثٍ لكل ما قد يحمله هذا السيناريو الأسود المنتظر من سيناريوهات أكثر سواداً، باتت ملامحها تتبدّى في عمليات صرف جماعي في مختلف القطاعات، وفي حالات انتحار هنا، و»تشليح» في شوارع باتت مكشوفة في الأمن، ومتهالكة أمام أول زخّات أمطار كانون الأول.

هو النهج ذاته الذي يعيد لبنان اليوم إلى منطق البحث عن المخاطر بدلاً من الحلول، ولعبة نفخ النار في رماد الأزمات الإقليمية والدولية التي تجاوزها لبنان - أو ربما ظنّ البعض ذلك - لتصفية حسابات داخلية، أو ربما اقتناص آخر الفرَص الشخصية للاستحواذ على آخر فلس يمكن أن يصل إلى لبنان من قروض «سيدر»، أو ربما آخر احتياطات المصرف المركزي الذي ما زال حاكمه يجهد، عبثاً، في إثبات نظرية «استقرار الليرة».

ضمن هذا المسار، ثمة من يسعى، متعمّداً، لدفع البلاد إلى «قفزة الموت» فوق فوهة البركان. ما حدث عشية الموعد الأول للاستشارات، وما قد يحدث عشية الموعد الثاني المرتقب بعد أيام، لا يَشي إلّا بحقيقة واحدة: ليس صحيحاً زهد سعد الحريري برئاسة الحكومة. لا خيار أمام الرجل سوى أن يستعيدها، وكل ما يقوم به يصبّ في خدمة هذا الهدف، والجميع شاهدوا بوضوح براعته في لعبة حرق أسماء البدائل عنه، وإبعادهم خارج النادي الحكومي، وجعل الوصول إلى السراي الحكومي حلماً غير قابل للتحقيق!


منذ استقالته، كرّس الحريري - عن عمد أو عن غير عمد - مقولة «أنا أو لا أحد»، رغم أنّ أحداً لا يجادله في ذلك، بدليل تمسّك خصومه بإعادة تسميته، لاعتبارات متصلة بألف باء التوازنات السياسية في لبنان، وهو ما يدفعه اليوم إلى الذهاب بعيداً في مسار المواجهة، طالباً أكثر من «لبن العصفور»، تحت مسمّيات متعدّدة، من «حكومة تكنوقراط» و«انسجام وزاري» و«وزراء لا يعطّلون»... إلى آخر تلك التسميات التي في جوهرها رغبة واضحة في ترؤس حكومة طيّعة، يديرها كيفما يشاء، ووفق البرنامج الذي يريد، وليس فيها من يجادل أو يعترض!

لكنّ ما هو «أكثر من لبن العصفور» لا يعني سوى تعقيد إضافي للأزمة، أو بالأصح تلك القفزة فوق فوهة بركان التناقضات الداخلية، وامتداداتها الخارجية، التي تجعل البعض اليوم يقامر بلبنان في لعبة «بوكر» اميركية، تستخدم الاقتصاد لعزل «حزب الله» في الخارج كما في الداخل.

ومن هنا، يبرز تقاطع الطروحات الداخلية مع التوجهات الاميركية المعلنة، إن لجهة تشكيل حكومة تكنوقراط بدلاً من حكومة تكنو-سياسية، أي إخراج «حزب الله» من الحكومة؛ والذهاب نحو انتخابات نيابية مبكرة، أي الانقلاب على ما وصفته واشنطن دوماً ببرلمان «حزب الله»؛ وانتزاع ورقة النفط والغاز من الشراكة الوطنية على نحو يجعل الاميركيين عنصراً رئيسياً في قطاع النفط، وهي فاتورة سياسية سيكون لزاماً على لبنان دفعها، بما في ذلك احتمال القبول بالشروط الاسرائيلية لترسيم الحدود.

الواضح حتى الآن أنّ المعركة الدائرة على خط التكليف والتأليف، تبدو من «الجانب الحريري» معركة وجودية ضد خصومه، وفق مقولة «أنا أو لا أحد»، وتبدو من جانب الخصوم، وعلى وجه الخصوص «شركاء التسوية الميتة»، أكثر من وجودية عنوان المعركة فيها: «إمّا أن أكون أو لا أكون»... ما يجعل الأزمة السياسية مفتوحة زمنياً، وعلى أكثر من سيناريو، خصوصاً أنّ منطق الأمور يدفع إلى القول إنّ أي طرف سيكون واهماً لو اعتقد أنّ بإمكانه حسم المعركة، ما يعني بعبارة أخرى أنّ البلد، وفي ظل حالة الاحتقان السياسي والخنق الاقتصادي القائمة، مرشح للذهاب نحو فراغ شامل في الحكم، يقود بدوره إلى ما لا تحمد عقباه، بدليل «بروفات» الحرب الأهلية التي بدأت منذ رفع «الجدران» في نهر الكلب، وما تلاها من مناوشات على جسر «الرينغ» و«خط تماس» الشياح - عين الرمانة السيئ الذكر.

بالتأكيد انّ الحريري يدرك جيّداً أنّ هذا السيناريو الأسود لا يريده أحد، ولكنه ، وعلى ما يقول أطراف المعركة المقابلة له على الخط الحكومي، ينبغي أن يدرك في المقابل أنّ ما يطلبه وما يطرحه من شروط لترؤس الحكومة، لا يمكن أن يقبل به أحدٌ أيضاً. وبالتالي، ووفق بديهيات المنطق، لا بد من مراعاة التركيبة اللبنانية السياسية والطائفية في التشكيلة الحكومية الجديدة إن كانت برئاسة الحريري، وبعيداً عن أي شروط، خارج شرط أن تراعي الحكومة الجديدة مطالب الحراك الشعبي.!

ولكن هل يمكن للحريري أن يفرض «أمره الواقع» في بلد قدّر له، منذ أن نشأ، أن يكون محكوماً بالتوازنات؟

الجواب في منتهى البساطة، وهو أنه يجب الاعتراف أولاً انّ في رؤوس الأطراف السياسية على اختلافها، خيارات متناقضة ورغبات وتمنيات بأن تَتسيّد هي المشهد الداخلي ولا «تزعل» أبداً إذا جرفَ الطوفان كل الاخرين، لتُمسك هي بزمام الدولة والحكم والتحكم بكل الآخرين، وتأخذ البلد في الاتجاه الذي تريد وتفرض فيه الأمر الواقع الذي يجعل مصالحها وربحها فوق كل اعتبار، ولكنّ التجربة في لبنان أكدت أنّ تركيبته العجيبة الغريبة هي الأقوى، من كل صراخ سياسي أو تهديد أي طرف سياسي ووعيده وتلويحه بالغلبة وفرض أمر واقع، فالبلد في قبضة هذه التركيبة، وهي التي تفرض عليه أن يبقى خاضعاً لمنطق التسويات في آخر لحظة.