السؤال الملحّ الذي يطرح نفسه اليوم في لبنان، من هي يا ترى أفضل طائفة لفتح الريغارات وقنوات تصريف المياه وتسليك المجارير؟ وهذا طبعاً بعيداً من الاختصاصيين وأصحاب الخبرات المحليين والأجانب، لأننا بطبعنا لا نؤمن بقدرات هؤلاء، بل نعتمد بشكل تام على المقدّرات الإلهية والعجائبية التي تتمتّع بها كلّ طائفة.

وبما أنّ التحاصص السياسي يعطي وزارة معيّنة إلى طائفة دون أخرى، وكأنّ في ذلك تدبيراً ربّانيّاً لا نستطيع نحن المواطنون العاديون فهم أبعاده الكونية والماورائية، ونعتمد أكثر على علاقة زعمائنا الأرضيين المباشرة بدوائر الجنّة، وتواصلهم مع الأنبياء والملائكة والمرسلين، ونثق أنّهم مع كلّ حكومة جديدة يحصلون على الوحي المناسب لاختيار الوزير الصحّ في المكان الصحّ، طبعاً قبل أن يتبيّن أنّه خطأ، وخطأ فادح.

أن نؤمن بالعجائب والأعمال الخارقة في الدين شيء، وأن نؤمن بالشيء نفسه في السياسة شيء آخر تماماً... كما لو أننا أصبحنا مدجّنين لتصديق أن الطائفة المارونية على علاقة وثيقة بمار شربل والحرديني ورفقا، ونصلّي لعجيبة تؤمّن الكهرباء 24/24 بلا معامل. وأنّ الطائفة الشيعية على اتصال يومي بالإمام علي وتنتظر تدخّله لمكافحة الفساد وتفادي الانهيار المالي والاقتصادي. وأنّ الطائفة السنيّة تجتمع بالخلفاء الراشدين أسبوعيّاً لضبط الأمن والحدود ومكافحة الجريمة ومحاربة الفقر.

هذا ما نؤمن به، أو على الأرجح المطلوب أن نصدّق أن طوائفنا تحمينا... لكن عندما تشتعل الغابات، وتطوف الشوارع بالمياه والفيضانات، ويتدمّر الاقتصاد، ويعمّ الفساد، ويسود الجوع، وتكثر البطالة، وتنهار الليرة لا نجد طائفة قادرة على إيجاد خطّة حلّ، ولا نجد زعيماً مؤلّهاً قادراً على تجاوز مطبّ على طريق الإصلاح... نؤمن بهم كثيراً قبل أن نجدهم يمسكون يد شيطان يلوّن مستقبلنا بالأسود.

واحتراماً منّا لكلّ المنضوين تحت لواء حزب أو تيار أو تحت عباءة زعيم وبيك وشيخ، لنفترض أنّ هؤلاء مقتنعون أنّ قياداتهم تحمي طوائفهم ومناطقهم ومعتقداتهم... لكن مهلاً، هل انتبهوا أن لا أحد يحمي رغيفهم وليرتهم، ولا أحد يحمي أمنهم واقتصادهم، ولا من يحمي مناخهم وهواءهم ومياههم وأشغالهم وأحلامهم وأمراضهم وشيخوخاتهم.

وجميع من لا يستطيعون رؤية ما يحدث في الساحات والشوارع منذ اكثر من 50 يوماً، ألم ينتبهوا أمس إلى لبنان يتحوّل إلى «بندقية الشرق»، ألم يلاحظوا المناطق الفقيرة مغمورة بمياه الأمطار من كثرة الإهمال وعدم تحمّل المسؤولية والتراخي في الواجبات؟

إذا كان العدو هو من أشعل الغابات، وإذا كان الشعب هو من سبّب الانهيار المالي وخراب البلد... فمن يا ترى تسبّب في إغراق بيروت بالمياه، ومن تسبّب في خراب منازل الفقراء من الفيضانات، ودمار السهول الزراعية من الأمطار، ومن الذي تسبّب في إغراق مئات السيارات وفي إقفال نفق المطار ومعظم طرقات المدن الساحلية بسبب البرك والمستنقعات؟

أكيد لا أحد يتحمّل المسؤولية، وإذا ألقينا نظرة سريعة على التشكيلة الحكومية، يصعب كثيراً إيجاد الوزير المناسب في المكان المناسب، وأكثر ما يثبت ذلك تهرّبهم المتواصل من إنهاء فروضهم الوزارية. فهل يتحمّل وزير الصحّة مثلاً مسؤولية البهدلة الوطنية بسبب مياه الأمطار، أو يتحمّلها وزير التربية أو وزير الثقافة؟ لا نعلم طبعاً، لأننا لا نعرف من يستلم ماذا، ومن يعرف ماذا، ومن الموجود في هذا المكان ولماذا!

الشعب الثائر يطالب بحكومة اختصاصيين تنقذ البلد من انهيار ماليّ واقتصادي بات شبه محتّم، والشعب الثائر لا يريد سوى أصحاب الاختصاص في الوزارات المناسبة، لأن هذا الشعب اكتشف أن البلد طايف بالطوايف قبل أن يطوف بالمياه وغارق بالفساد والجهل... وهذا الشعب اكتشف انّ مياه الأمطار لا تعاني من حساسية على طائفة دون أخرى، بل تشتهي اختصاصي يعاملها معاملة متمدّنة فيصرّفها ويرميها في البحر ولا يبقيها في الشوارع لتصبح آسنة مثل نفسيات الطائفيين العميان.