الشباب العراقي المنتفض يفسد مخططات قاسم سليماني الإجرامية ويواصل الصمود.
 

لا يمكن تصوّر أن قيم العالم وتقاليده السماوية والأرضية الخيّرة يمكن أن تزاح وتحلّ محلّها نظم شريرة أخرى تجعل من يوظفون المال المسروق والسلاح، لديهم قدرات مطلقة للتحكم بحياة الشعوب وكشعب مثل شعب العراق دون أن تكون لها نهاية بعد 16 عاماً تعادل قرنا من أزمان الدكتاتوريات المستبدة. ثم تنكشف حقيقتهم محلياً وخارجياً وتنهار صومعات الزيف دفعة واحدة ويظهر الجلادون عراة بسكاكينهم السامة يغرزونها في الأجساد الطرية للشباب. لم يتوقع أحد أن تسلّم قوى الإسلام السياسي في العراق السلطة للشعب بسهولة وهي التي انشغلت ببناء كارتلات الفساد والقتل طوال تلك الأعوام العجاف، وهي لا تريد أن تصل إلى عتبة الاعتراف بالهزيمة وهي التي لا تمتلك صلة بثقافة الاعتراف السياسي.

كانت المفاجأة أن مسؤولي أحزاب الإسلام السياسي في العراق الذين تغلّفوا بعنوانه واجهوا ثورة شباب يبحث عن وطن ولم يترددوا منذ اليوم الأول لثورتهم من تقديم شهداء وصل عددهم 500 وأكثر من 20 ألف جريح.

عناصر المفاجأة التي أحدثتها الثورة العراقية متعددة تطلّبت قدراً كبيراً من التأنّي والحنكة والخبرة السياسية لمواجهتها من قبل المسؤولين عن الحكم من خارج الحدود بعد أن لم يمتلكها سياسيون محليون جهلة فاسدون قضوا سنوات الحكم الستّ عشرة لا رأي ولا قرار مستقل لهم. نصفها الأول انقضى في ظل احتلال عسكري أميركي مباشر، سنته الأولى كانت في ظل الحاكم بول بريمر الذي لم يتردد بوصفهم بأرذل الأوصاف الشخصية، دون أن يتجرأ أحد منهم على الّرد عليه حتى في ظل مقاييس الأخلاق الشخصية. وبعد عام 2011 أصبحوا ينفّذون مشروع ولاية الفقيه لتفتيت العراق طائفيا، ونهب أمواله دون أن يضعوا للشعب أيّ حساب.

اكتشف شباب الثورة مبكّرا أنهم يواجهون عدوّا كبيرا مكانه الحقيقي ليس المنطقة الخضراء ببغداد، وأشخاصه ليسوا هؤلاء السياسيين الحاكمين، وإنما في طهران يتمثّل بغراب زائر اسمه الجنرال قاسم سليماني يمتلك ميراثا طويلا في لوجستيات القمع وأدوات القتل، وفي تزييف الشعارات المتقنة. كان مطلوباً من العملاء والمرتزقة الصغار في بغداد منحه شخصية أسطورية لتمرير وجوده في العراق سابقاً تحت شعار حرب داعش التي تمزّقت ورقتها، واليوم ليدافع بالسلاح عن وجود أزلامه في السلطة ببغداد لأن ذهابهم ينهي تلقائيا وجود نظامه في العراق. لكنه اليوم يأتي إلى بغداد وظهره في طهران متهالك ضعيف حتى وإن كابر بالإعلام وبحرسه الثوري.

طرفا الصراع أصبحت ساحتهما مكشوفة بين محتلّ أجنبي وأعوان ينفذون مشروعه وشباب ثائر باسم الوطن. وفي التقاليد الاستراتيجية العسكرية القديمة تصبح المعركة سهلة وسريعة الإنجاز حين تنكشف ساحتها ولا تغلفها السواتر والألغام. هناك تصوّر يقول بأنه لا يوجد تكافؤ بين الشباب المنتفضين بإمكانياتهم المادية البسيطة، وبين سلطة مدجّجة بالسلاح لديها أجهزة استخبارية وأمنية، وميليشيات مسلّحة بعشرات الألوف تابعة للقوى الموالية لطهران. هذا التصوّر السطحي دفع قاسم سليماني في المرحلة الأولى إلى تبنّي فكرة التغيير السياسي لرئيس الوزراء إلى جانب تعديلات انتخابية، لكنه فوجئ باستمرار الثوار وعنادهم وصاحب ذلك شعارات مرجعية السيستاني التي كانت صالحة للتوظيف من قبل جميع الأطراف الحزبية الحاكمة وجمهور الثوار.

الصدمة انتقلت من أنصاف السياسيين العراقيين الغارقين بالمليارات المسروقة من الشعب، إلى قاسم سليماني نفسه الذي تفاجئه يوميات الثورة، فكان إيعازه بتنفيذ الصفحة الثانية بجانبيها الميداني والسياسي. حيث تم تنفيذ مخطط دموي بفتح النار على الشباب المرابطين في الناصرية والنجف وكربلاء وبغداد، فكانت مجزرة الناصرية المروعة بتاريخ 28 و30 نوفمبر تلتها مجزرة النجف انتقاما من شبابها الذين أحرقوا قنصلية سليماني، وأخيراً مجزرة السنك ببغداد في السادس من ديسمبر. جاء ذلك الترويع بعد فشل عمليات القتل الفردي والاختطافات في ردع الثوار.

لعبة سليماني بصفحتيها السياسية والعسكرية غرضها إحداث اختراق داخل صفوف المنتفضين والمعتصمين تمهيداً لسحقها، وجاءت بعد التشاور مع خلية الأزمة التي يديرها ببغداد، وتضمّنت مداهمة المتظاهرين بالسلاح بعد فشل التظاهرات الحزبية بشعارات شيعية تظللت مرة أخرى بالسيستاني التي سارع الناطقون باسمه إلى التبرؤ منها. الصدامات العسكرية يراد لها أن تبدو وكأنها حرب شيعية – شيعية حتى إن الناطق باسم قائد للقوات المسلحة صرّح بأن ما حصل في مجزرة السنك هو شجار شخصي تطور إلى صدام عسكري، ثم وصفت من قبل الرئيس برهم صالح بعد صمت طويل بأنها “اعتداءات إجرامية”، لكن شباب ميدان التحرير فضحوا أهدافها وكشفوا المندسين إلى السنك وميدان التحرير.

ما زال الجهلة ببغداد وأولياء أمورهم بطهران يتوقعون أنه يمكن إحداث تغييرات شكلية تكون قادرة على إسكات الثوار الذين يزدادون إصراراً على رحيل الطبقة السياسية.

يوماً بعد يوم تخرج الثورة العراقية من محليّتها إلى العالم الخارجي رغم شعور المنتفضين بأن ثورتهم يتيمة لا أب ولا أم لها سوى شعب العراق.