منذ انطلاق الحراك الشعبي في 17 تشرين الأوّل الماضي وحتى الآن وكثيرون يتساءلون أين الولايات المتحدة الاميركية من هذا الحراك، بل أين الدول الغربية قاطبة منه، خصوصاً في ضوء سريان معلومات عن أنّ هناك من يكمن خلفه لينال من لبنان مقتلاً ويحمّل حزب الله المطلوب رأسه أميركياً وإسرائيلياً تبعة ذلك، وبالتالي التصويب عليه وتقويض نفوذه بنزع سلاحه وإقصائه عن المشاركة في السلطة عبر تشكيل «حكومة التكنوقراط».
 

يؤكّد خبراء ومتابعون للسياسة الأميركية في لبنان أنّ الولايات المتحدة الأميركية ليست في وارد ترك هذا البلد في مسار الانهيار، فهو كان ولا يزال موضوع اهتمامها والدول الغربية عموماً، أوّلا لوقوعه على حدود فلسطين المحتلة، وثانياً لأنّه يحتضن على ارضه شريحة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين منذ نكبة فلسطين عام 1948 وحتى اليوم، وثالثاً، لاحتضانه ما يربو على مليوني نازح سوري لم يعد منهم سوى 250 الفاً حتى الآن، فلكلّ هذه الأسباب تستمرّ الولايات المتحدة في اهتمامها بلبنان إلّا أنّها منشغلة بنفسها وغير مرتاحة، ولكن ذلك لا يمنع وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيّتين من ترجمة هذا الاهتمام، بدليل الإفراج عن مساعدة الـ105 ملايين دولار للقوات المسلحة اللبنانية التي كان «البيت الابيض» حجبها قبل اسابيع، ولو كانت واشنطن تريد نفض يدها من لبنان لما كانت أفرجت عن هذه المساعدة، التي كان سبب التأخر في الافراج عنها بعض الشيء انتظار المسؤولين في الخارجية و»البنتاغون» «التغريدة» التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب بهذا المعنى.

ويقول هؤلاء الخبراء ان ليس من عادة واشنطن والعواصم الغربية التأخر في التحرك والتفاعل أو إبداء أيّ ردّ فعل عملي ازاء الاحداث التي تحصل في لبنان، ما جعل كثيرين يعتقدون انّ واشنطن وحلفاءها الغربيين قرروا نفض أيديهم من بلد الأرز وتركه لمصيره، فيما كانوا هبّوا بسرعة قبل بضعة أشهر لتطويق ذيول حادثة قبرشمون الى درجة انّ السفيرة الاميركية ايليزابيت ريتشارد جالت على القيادات السياسية والرسمية المعنية طالبة معالجة الحادثة، فكان الاجتماع الشهير في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية وحضور الافرقاء المعنيين، وتمّ تطويق ذيولها وتركها للقضاء.

ويشير الخبراء أنفسهم ان الاميركيين عادة ما يتدخلون سريعاً في ايّ حدث لبنانيّ يتصل بمصالحهم مباشرة او مداورة، ولكن تأخّرهم للتدخل هذه المرة كان لأنّهم

سلّموا أمر لبنان للأوروبيين عموماً ولفرنسا تحديداً، ليتبين أيضاً انّ التأخر الغربي في التدخل كان سببه الخلاف بين الاميركيين والفرنسيين على طبيعة الحكومة اللبنانية الجديدة، الاميركيون يريدونها «تكنوقراط» فيما الفرنسيون يريدونها تكنوسياسية لخبرتهم في النسيج اللبناني، ويبدو انّ وجهة نظرهم هي التي انتصرت وستكون الحكومة تكنوسياسية، ولذلك تقرّر اجتماع مجموعة الدعم الدولي للبنان في باريس في 11 من الجاري بمباركة الادارة الاميركية التي أوكلت الى الإدارة الفرنسية إيجاد حلّ يمنع انهيار لبنان اقتصادياً ومالياً، وجلست في خلفية الصورة.

ولذلك، يضيف الخبراء، لا يمكن قراءة اجتماع باريس إلّا أنّه مؤشر على تجاوز لبنان قطوع الانهيار المالي والاقتصادي وتحوّله دولة مفلسة، لأنّ هذا الاجتماع سيدشّن انطلاق التحرك الغربي الفعال لمساعدته على تجاوز الازمة ومنعه من الانهيار الذي لا مصلحة للأوروبيين وللأميركيين في حصوله وبات عامل الوقت مهماً جدًا لديهم لمعالجة الازمة اللبنانية.

وخلافاً لما يردّده البعض من انّ خلف كلّ ما يجري مخطط اميركي لمحاربة «حزب الله» وإخضاعه، يقول الخبراء في السياسة الاميركية أن الولايات المتحدة الاميركية ليست في وارد تخريب لبنان بغية النيل من حزب الله، فهي تحارب ايران بواسطة العقوبات، وتحاربها في العراق بأشكال مختلفة، اما في لبنان فإن تصرف الاميركيين مختلف، فهم لا يمكنهم تخريب هذا البلد الواقع على حدود اسرائيل ويحتضن الملايين من اللاجئين والنازحين السوريين والفلسطينيين الذين في حال خرابه سيندفعون مهاجرين الى اوروبا واميركا ويتحولون قنبلة بشرية تنفجر في وجه الغرب. ولتجنب ذلك اعتمد الاميركيون فرض العقوبات على حزب الله ولكنهم قبل فرضهم حرصوا على الاجتماع ببعض المسؤولين اللبنانيين ومسؤولي القطاعات المصرفية والاقتصادية ليشرحوا انّ هذه العقوبات «لا تؤثر على الاقتصاد اللبناني وانّما تستهدف حزب الله فقط»، ولكن ثبت واقعياً انّ هذا الاقتصاد تأثّر جداً، وما يشهده الآن من أزمة تهدّد بانهياره هو من مضاعفات تلك العقوبات، على حدّ قول أحد الخبراء الاقتصاديين.

وعما يحكى عن دور للأميركيين في الحراك الشعبي، يقول الخبراء في السياسة الاميركية انّ هذا الحراك فاجأ الجميع بمن فيهم الاميركيون، فهو حصل في وقت كان مصرف لبنان يتخذ اجراءات لمواجهة تدهور اقتصادي ومالي كان بدأ قبل اسابيع من الحراك وكشفت عنه السوق الموازية لليرة حيث كان يسود تفاوت في سعر الدولار الواحد نحو 45 ليرة بحيث صار يباع في هذه السوق بألف وخمسمئة وخمسين ليرة فيما سعره في السوق الرسمية 1505 ليرات.

ولذا يعتقد الخبراء أنفسهم ان الحراك «جاء عفوياً» في البداية، وربما يكون الاميركيون وغيرهم دخلوا على خطه ولكن ليس الى الحدود القصوى، فقد يكون للاميركيين مصلحة في هذا الحراك لأنّه غيّر في موازين القوى وضعضع الاحزاب اللبنانية ولاسيّما منها «حزب الله» وهذا لا يرى الاميركيون فيه ضيراً، اما القول انهم دخلوا في الحراك ليوجهوه فهذا الامر لا يمكن تحديده، لأنّ المخابرات المركزية الاميركية لو دخلت في هذا الحراك لكان المشهد الآن مختلفاً وسيكون من الصعب وضع الاصبع على ما يمكن ان تفعله.

ولذلك، يقول الخبراء، ان «ليست هناك يد اميركية ظاهرة في الحراك على رغم من أنّ واشنطن والعواصم الغربية وغيرها مهتمة به وكلها تريد توجيهه في الاتجاه الذي يخدم مصالحها، ولكن هذا الحراك لا يمكن ان يستمر طويلاً في الوتيرة التي هو عليها لأنّه ستترتب عليه تبعات اقتصادية ومالية لا يستطيع لبنان تحمّلها لفترة طويلة لأنه بلد يعيش على التحويلات المالية من الخارج وعلى الخدمات المالية والاستثمارات والسياحة وغيرها، «فالجيد ان هذا الحراك خضّ النظام السياسي وأفهم الطبقة السياسية والاحزاب بأنها باتت لا تستطيع بعد اليوم ان تتصرف بالبلد وفق ما تريد»، حسب الخبراء في السياسة الاميركية.