في الذكرى الخامسة للبيعة، تذكَرْنا جميعاً، وبمناسبة مرور سبعين عاماً على نكبة فلسطين، مؤتمر القدس الذي دعا الملك سلمان بن عبد العزيز لانعقاده، وقال مراراً إنّ قضية فلسطين هي قضية المملكة الأولى. وهذا الانشغال السعودي بفلسطين ليس جديداً، وهو الذي أكّده أمير مكة، ورئيس مؤسسة الفكر العربي الأمير خالد الفيصل، عندما ذكّر في مؤتمر المؤسسة بالظهران هذه الأيام بمقولة الملك، وبسبعينية القضية الفلسطينية، معلناً أنّ تقرير التنمية الثقافية لهذا العام والذي تُصدره المؤسسة هو عن فلسطين.


أذكر أنه في العام 1996 أو 1997 وكنتُ مكلَّفاً مع بعض اللاهوتيين المسيحيين بتقديم تقريرٍ عن الأديان وانتهاكات حقوق الإنسان، أمام لجنة حقوق الإنسان بجنيف؛ أنّ السيدة ماري روبنسون رئيس اللجنة يومها قالت في تقريرها إنّ القضية الفلسطينية عديمة الشبيه في الفظاعات التي حدثت فيها. وعندما ذكر آخرون «فظائع أُخرى» ومنها كوريا وفيتنام... وحتى الهولوكوست، لاحظت روبنسون أنّ تلك الفظاعات على هولها فإنها انتهت، بل وأُزيلت آثارها، بينما لا يزال الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ويعاني الأهوال!

 


وفي الحقّ أنّ العرب الذين نزلت بهم كارثة الصهيونية في فلسطين النادرة المثال، لا تزال كوارث مشابهة وأفظع تتوالى عليهم في الكثير من بلدانهم وشعوبهم ومعيشتهم واستقرارهم وعلاقاتهم بالعالم. بالأمس قرأنا أن الطيران السوري قصف مستشفى وسوقاً في مدينة معرة النعمان، فقتل العشرات. وهذا الأمر يحدث مثله وأفظع يومياً في سوريا منذ ثمانية أعوام. الصهاينة احتلوا فلسطين، وهجّروا شعبها. أما في سوريا فإنّ القتل والتهجير حدث من جانب النظام الذي حكم سوريا منذ نصف قرنٍ وأكثر، أي مثل نظام كيم إيل سونغ وابنه وحفيده. وعندما عجز عن «الانتصار» على شعبه، استعان بالإيرانيين والروس، مثلما استعان ديكتاتوريون آخرون بالإمبراطوريات والدول القريبة والبعيدة.

 


وإذا كانت سوريا هي فلسطين الثانية؛ فإنّ العراق هو فلسطين الثالثة. ابتلي بديكتاتور، ثم ابتلي بالغزو الأميركي عام 2003 الذي لا تُعرف أسبابه الحقيقية حتى اليوم. ومن وراء الغزو الأميركي جاء الإيرانيون، وجاء الإرهابيون، وانقسم الناس على أنفسهم، فحصلت المذابح التي لم توفر أحداً إلاّ مخطِّطيها. ولأنّ الجميع بمن فيهم الإيرانيون الأشاوس تعاونوا ضد الإرهاب السني، فقد أُضيف سبب آخر من مبررات السيطرة على العراق: إزالة الدولة العراقية التي قاتلت إيران أيام صدام، والسطوة حتى لا يعود «داعش»! وهكذا أنشأ الإيرانيون الأدوات المحكمة في إدارة الدولة، وفي الجيش والشرطة والأمن، وأخيراً وليس آخِراً الميليشيات المسماة بالحشد الشعبي. وبالإضافة إلى ترويع الناس ونهب المال العام، راح «الحرس الثوري» الإيراني يقاتل بمال العراقيين وشبابهم في المناطق السنية بالعراق، وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن. لقد تهجّر 3 - 4 ملايين سني، والحشد الشعبي لا يزال يسيطر على المناطق السنية، وحشود الشبان الذين يتقاضون مرتبات ولا يعملون، والسيطرة على أجهزة الأمن؛ كل ذلك، وبعد انتخابات نيابية مزوَّرة ما نجح فيها الشيعة من أنصار إيران فقط، بل نجح السنة أيضاً (!). بعد هذا كله اطمأن الإيرانيون وأنصارهم الحاكمون بالعراق، حتى فاجأت انتفاضة الشبان الجميع. كان سليماني قد أمر عبد المهدي بعدم الاستقالة، إنما بعد شهرين من الاحتجاجات، وسقوط مئات القتلى، وبعد تهديدات السيستاني، اضطر عبد المهدي للاستقالة، وبالطبع سيطول أمد تشكيل حكومة جديدة لا تُرضي الإيرانيين!

 


ووضع لبنان ليس أسهل أبداً. صحيح أننا متعودون على الأزمات السياسية، لكنّ التأزم السياسي يأتي هذه المرة مقروناً بأزمتين مالية واقتصادية. الحاكمون بلبنان أو المتحاصصون تحت مظلة نصر الله الضافية كانوا أكثر اطمئناناً من ميليشيات العراق، فقد استولوا على سائر المرافق باسم تحصيل حقوق المسيحيين وحقوق الشيعة، وانتخبوا رئيساً موالياً، وحصلوا على الأكثرية في مجلس النواب، وباسيل يقفز من رؤوس الجبال، فإلى اللقاء المشرقي، فإلى إهانة الحريري والاستخفاف به بحجة أنه لا يركض معه باتجاه الأسد. أما نصر الله فتفوق على نفسه في خطاباتٍ متوالية تبشيراً مرة بانتصار محور المقاومة، ومرات بقرب ظهور المهدي! لكن كما في حالة العراق، نزل الشباب للشارع هاجمين على حكومة الفساد، ومطالبين بوزارة غير حزبية وغير سياسية. وما صمد الحريري الذي لم يرد البقاء واجهة لباسيل ونصر الله، فاستقال ثم رفض تشكيل حكومة جديدة بأي شروط. ماذا يفعل اللبنانيون؟ ربح عون وباسيل كثيراً هما وأقاربهما، لكنهما فقدا كثيراً بفقد المسيحيين. إنما كيف يمكن الخلاص من «حزب الله»؟ نشبت حرب أهلية لإخراج الفلسطينيين. واغتيل الحريري حتى أمكن إخراج السوريين. فهل تستطيع الانتفاضة الشبابية جعل سلاح الحزب «خردة»، باعتبار أنه ما عاد يمكن استعماله؟!

 


عندنا في العالم العربي أربع أو خمس فلسطينات والحبل على الجرار. لا تنحل الأزمة إذا ذهب الحاكم، وتتفاقم إذا بقي. ولا أزمة سياسية من دون قتلٍ وتهجير، وتدخلات إقليمية ودولية: فهل يحدث ذلك كله عندنا فقط؟ سيلاحظ مراقبون أنه حدث ويحدث شيء من ذلك دائماً بأميركا اللاتينية وأفريقيا. وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن الذي نذكره أنّ أزمات رواندا وبوروندي لم تَطلْ كما طالت الأزمة السورية، والأزمة الليبية. ثم إنّ الأزمة العراقية مستمرة منذ العام 2003!

 


لا أقصد إلى السخرية أو العجيز أو تمحُّل الاستحالة. لكنها أزماتٌ خانقة تلك التي يعيش فيها العالم العربي؛ وسواء أشبهت القضية الفلسطينية أم لم تشبهها! ولا يزال كثير من المراقبين يكررون المقولة الكلاسيكية إنّ الطبيعة تأبى الفراغ. فالوهاد تغمرها المياه من أي نوع. والدول الضعيفة يتدخل فيها الآخرون، أي آخرين. وهذا ما حصل في كل الدول العربية التي أُصيبت بالميليشيات المدعومة من الخارج القريب والبعيد. وكما بدأنا بفلسطين فلنختم بالهم الفلسطيني. لقد أراد نتنياهو الذهاب إلى اجتماع الأطلسي بلندن لإقناعهم بضم غور الأردن (!) فما أعطوه موعداً، فليكن هناك التفاتٌ إلى الأردن وإلى الفلسطينيين، قبل السبعين وبعد السبعين!