عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية في أكثر من 100 مدينة إيرانية كبرى، بما في ذلك العاصمة طهران، أصبح من الواضح على نحو صريح حجم التخبط والمعاناة التي تعاني منها النخبة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية بشأن اتخاذ القرار السليم إزاء ما يجري.
وشرع الفصيل المؤيد للمرشد الإيراني علي خامنئي في توصيف الاحتجاجات بأنها نسخة مكررة وسخيفة من الاحتجاجات التي تناثرت هنا وهناك عبر صفحات تاريخ إيران منذ قيام الثورة في عام 1979 وحتى يومنا هذا. ووصفت صحيفة «كيهان» اليومية، والمعروف عنها تأييدها كل ما يصدر عن خامنئي وزمرته، الاحتجاجات الراهنة بأنها مجرد حالة من الاضطرابات غير المتصلة التي أثارتها حفنة رخيصة من مثيري الشغب. وقال علي خامنئي نفسه، إنه لا يتصور الاحتجاجات بأكثر من كونها «مطباً مصطنعاً» على طريق الحضارة الإسلامية الجديدة والعظيمة، التي يزعم أنه يواصل بناءها بكل إخلاص وأمانة.

 


كما وصفت وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية الأمر بأنه «شغب أعمى من دون قيادة».
وسخرت الأصوات المؤيدة للنظام الإيراني في الغرب من الأمر برمته، ووصفته بأنه لا يعدو مجرد «زوبعة في فنجان»، وقالت إن حفنة المنفيين الذين يشنّون حملات حقوق الإنسان على النظام الإيراني غير قادرين بالكلية على طرح القيادة البديلة الجادة واللازمة لمواجهة الحكومة في إيران.

 


وحاولت شراذم الفصيل الإيراني الساعي للإصلاح توصيف الاحتجاجات الحالية بأنها ليست إلا غلياناً شعبياً على رفع أسعار البنزين في إيران لثلاثة أضعاف دفعة واحدة.
كما حاولت جماعات الضغط الموالية للجمهورية الإسلامية في الخارج الترويج لنسخة ثالثة من تفسير الأوضاع الراهنة بقولها إنه في حين أن مثيري الشغب يتصدرون الاحتجاجات في الشوارع الإيرانية، فإن جماهير الشعب التي تؤيدهم ليست لديهم مظالم معيشية حقيقية ضد النظام. وأصروا على أن الرئيس حسن روحاني كان يحاول زيادة إيرادات الحكومة من أجل المحافظة على سريان سفينة الدولة في مسارها المعقول.
ولم يكلف أحد من أبناء المؤسسة الحاكمة في إيران نفسه عناء التساؤل عن سبب استعداد الكثيرين من أبناء الشعب الإيراني المخاطرة بأنفسهم وأرواحهم من أجل إسماع أصواتهم للنظام الحاكم بغية أن يفعل ما يلزم كي يعالج المظالم ويضبط الأحوال في البلاد.

 


وبعد فترة من التردد في بادئ الأمر، تمكنت النخبة الحاكمة في إيران من استعادة وحدتها في مواجهة الأزمة من خلال الاستجابة المثلى في تلك الظروف، ولا نقول أبداً إنها الوسيلة المثلى الوحيدة، لكن الوسيلة «الوحيدة» التي لا يعرف النظام الإيراني الحاكم سواها في معالجة مثل تلك الأمور: أي القمع الأمني الوحشي الذي أودى بحياة المئات من المواطنين، فضلاً عن اعتقال أكثر من 10 آلاف مواطن حتى الآن.
ولقد أعيد تغيير المسميات التي ظهرت أول الأمر في وسائل الإعلام الرسمية، من «مثيري الشغب» إلى «المقاتلين المسلحين المدربين على أيدي القوى الأجنبية» الذين جرى إرسالهم إلى إيران كي تتحول إلى سوريا أخرى. ووصل الجنرال حسين سلامي، أقرب المساعدين العسكريين من علي خامنئي، إلى أقصى درجات التطرف والمبالغة بزعمه أن إيران تواجه «حرباً عالمية حقيقية على أراضيها».
ثم، وعلى نحو مفاجئ، جرى التخلي تماماً عن مزاعم أن الاحتجاجات الراهنة تتحرك على غير هدى ومن دون قيادة واضحة.

 


إذ أكد علي خامنئي بنفسه أن «أسرة بهلوي الخبيثة» تتسيد وتقود أعمال الشغب الشعبية بالتعاون مع منظمة «مجاهدين خلق» الإيرانية المعارضة، أو ما وصفهم بالمنافقين، على حد وصفه. وفي تلك الأثناء ذاتها، خرجت آلة الدعاية الخمينية الرسمية علينا برواية جديدة تماماً حين قالت: واجهت الجمهورية الإسلامية في الفترة السابقة تحديات ملحمية وخطيرة، ولقد نجحت نجاحاً باهراً في سحق تلك التحديات من دون التنازل قط عن ثوابتها أو التراجع عن مبادئها، ناهيكم عن أي محاولة لإعادة صياغة أي من السياسات الداخلية أو الخارجية الرسمية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أن التأثيرات الوسيطة المدى من الاحتجاجات الراهنة لا تزال خاضعة للتنبؤات والتكهنات، إلا أن نتائجها الفورية والمباشرة كانت واضحة وجلية في حالة التراجع المتعددة الصفوف والجوانب من قبل الزمرة الخمينية الحاكمة. وأول أوجه هذا التراجع كان واضحاً على الصعيد الآيديولوجي.

 


فعلى نحو مفاجئ، تلاشى الحديث الزائف عن «غزو العالم» و«إقامة الحضارة الإسلامية الجديدة والعظيمة»، وطوته غياهب النسيان.
وأعرب خامنئي، في خطاب غير عادي، عن آيديولوجيته الجديدة حين قال: «إذا رغب الشعب الإيراني في المحافظة على معيشتهم الطيبة وعلى أمنهم، فيتعين عليهم التمسك بالجمهورية الإسلامية وحكومتها».
وقال الرئيس حسن روحاني، إن نسبة 70 في المائة من الشعب الإيراني يعيشون في الفقر، في حين أن نسبة الـ30 في المائة الأخرى يعيشون حياة طيبة ومزدهرة. وكان خامنئي قد أوضح قبلاً أنه يتطلع إلى معاونة نسبة الـ30 في المائة المزدهرة من الشعب الإيراني في الحفاظ على بقاء نظام الحكم. وكان الخميني، في زمانه، قد زعم أن ثورته «الإسلامية» كانت من أجل «فقراء الشعب الإيراني» الذين أطلق عليهم مسمى «المحرومين أو المستضعفين» باللغتين العربية والفارسية. والآن، نجد علي خامنئي وهو يقول إن ذلك المصطلح قد أسيء فهمه.

 

 


وفي الأسبوع الماضي، زعم خامنئي في فتوى من فتاويه قائلاً: «لقد أسيء فهم مصطلح المستضعفين بأنهم الفقراء والضعفاء من الشعب. وهذا مجانب للصواب والحقيقة. فالمستضعفون هم الأئمة وزعماء الإنسانية». وتستند حجة خامنئي إلى الأئمة الإثني عشر، ومن تبعهم من رجال المذهب الشيعي الذين ورثوهم، من الذين جرى تجريدهم من حقوقهم في حكم العالم. وبالتالي، عندما يتعلق الأمر بالشؤون الدنيوية، فإن نظام الحكم الإسلامي غير معني بمساعدة الفقراء والضعفاء من أبناء الشعب، وإنما بحماية الأمن والازدهار لأولئك الذين يحظون ويتمتعون بهذه النعم.
وإيضاحاً لكلام خامنئي بعبارة أوجز، فهو يدعو نسبة الـ30 في المائة المزدهرة من الشعب الإيراني لئلا يعتبروا رفاهية معيشتهم الحالية من المسلمات المفروغ منها ويتجهوا لمعاونة النظام في سحق جماهير الفقراء الغاضبة الذين يرغبون في الانقضاض على الزمرة الحاكمة.

 


كانت الثورة على شاه إيران قد اشتعلت، وأديرت، وتحركت تحت قيادة الطبقات المتوسطة من أبناء الشعب الإيراني التي ظهرت في عهده. وكانت جماهير الشعب العادية، من العمال والفلاحين، الذين ربما يناسبهم مصطلح «المحرومين» بمعناه الحقيقي، ظلوا على موالاتهم للشاه حتى النهاية. واعتقد الشاه اعتقاداً خاطئاً أن الطبقات الوسطى الحضرية الحديثة النشأة والنمو والازدهار في عهده لم كانت لتتجرأ على منابزته والاعتراض على نظام حكمه أبداً. بل كان أخشى ما يخشاه ثورة العمال والفلاحين على النسخة الشيوعية من النوع الذي كان يتصوره لينين الروسي أو ماو تسي تونغ الصيني، لكن لم يكن ذلك ما حدث في بلاده بكل أسف.
وظن الشاه أنه من خلال منح الأراضي للفلاحين، ومنح العمال حصة من أرباح الشركات التي يعملون فيها، كان يحول دون اندلاع مثل تلك الثورة. وتجاهل الشاه، أو لعله تغافل، عن حقيقة مفادها أن الفلاحين الذين تحولوا إلى ملاك للأراضي، وإن كان على نطاق صغير، استخدموا صكوك وسندات الملكية التي بحوزتهم في الدخول إلى سوق رأس المال ولحقوا في نهاية المطاف بأبناء وأجيال الطبقة الوسطى الحضرية في إيران. ووقع شيء مشابه لذلك لدى الشريحة العليا من العمال في المدن الحضرية الذين عملوا على استثمار حصصهم من الأرباح في الوصول إلى وضعية الطبقات الوسطى من المجتمع الإيراني.

 


ونحن نعلم الآن أن الشاه في عهده لم يكن يعاني أي مشاكل أو يلمس أي مخاطر من جانب كتلة الفقراء والمهمشين من أبناء الشعب الإيراني.
بل ظهر الخطر الحقيقي على نظام حكم الشاه من أبناء الطبقات الوسطى الحضرية التي لا تستمر على ارتياحها أو رضاها عن الازدهار الاقتصادي والحريات الاجتماعية في المجتمع لفترة طويلة من الزمن على أي حال. وفي غالب الأمر ينتهي بهم الأمر إلى المطالبة بمزيد من الحقوق السياسية التي تتناسب مع أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتطورة. ومن أفضل رموز الطبقات الوسطى الحضرية في العصر الحديث، أو الطبقة البورجوازية كما يروق للماركسيين وصفهم، هو شخصية «أوليفر تويست» من تأليف الأديب الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز، الذي كلما حصل على المزيد تطلع إلى المزيد وطالب بالمزيد!
فهل وقع علي خامنئي في خطأ مماثل وإن كان لأسباب أو دوافع مختلفة؟

 


وربما تبقى نسبة الـ30 في المائة المزدهرة من الشعب الإيراني، التي يعوّل عليها خامنئي، مخلصة وموالية طالما أنه قادر على الحفاظ على السواد الأعظم الباقي من الشعب قيد الضغوط المستمرة. ومع ذلك، إذا تمكن خامنئي من سحق نسبة الـ70 في المائة الباقية، وبالتالي القضاء على مصدر التهديد الرئيسي لنظامه، فسوف يتعين عليه مواجهة النسبة الأخرى المتبقية والمطالبة بالمزيد من الحقوق والحريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ليس بمستطاع أي نظام حكم ديني منحها لأي شعب. وإن أخفق خامنئي في تلبية تلك المطالب، فسوف تتجه نسبة الـ30 في المائة إلى البحث عن شخصية أخرى تستطيع تلبية ما يعجز النظام الإيراني الحالي عن تقديمه. وفي كلتا الحالتين، فإن المرشد الإيراني يراهن على مقامرة خاسرة!