إنّ الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 17 تشرين الأول أحدثت تحولات مهمة داخل البنية المجتمعية السياسية اللبنانية، وذلك في موازاة النتائج المباشرة للإنجازات التي حققتها والتي ستحققها.
 

دخل المشهد السياسي اللبناني في ثبات موصوف على أثر انتفاضة الاستقلال التي فرزت اللبنانيين بين 8 و14 آذار، وانتقال «التيار الوطني الحر» في شباط 2006 إلى التحالف مع «حزب الله» خلافاً لكل أدبياته منذ نشأته العملية مع ترؤس العماد ميشال عون الحكومة الانتقالية لمدة سنتين، وعلى رغم كل التطورات السياسية التي شهدتها المرحلة الممتدة من 14 آذار 2005 إلى 17 تشرين 2019، فإنه لم يطرأ أي تبدُّل فعلي ونوعي على الفرز الذي أحدثته ثورة الأرز إلّا مع انطلاق ثورة 17 تشرين التي أعادت خلط الأوراق بفعل التحولات العميقة التي أفرزتها داخل البنية المجتمعية اللبنانية.

والطرف الأكثر تأثراً بحدث 17 تشرين مسيحياً هو «التيار الوطني الحر» الذي أصيب في الصميم وسيكون من الصعب عليه إعادة ترميم وضعه وصورته، خصوصاً أنّ الناس «شَيطنت» رئيسه جبران باسيل فتبدّدت كل أحلامه الرئاسية، وخسر «التيار» الحاضنة المسيحية التي شكّلت تاريخياً مصدر قوته، ومواجهة الأمزجة الشعبية تتطلب سنوات واعتماد سياسة طويلة الأمد. والأصيل، أي عون، لن يتمكن من خوضها، فيما الوكيل أمامه تحديات كبرى تبدأ بدائرته الصغرى المتصلة بالعائلة ولا تنتهي بالدوائر الأخرى، بدءاً بالتيار وصولاً إلى الواقعين المسيحي والوطني، إذ أصبح حالة غير مرغوب فيها سنياً ودرزياً.

أمّا الثنائية التي شكّلها «التيار» مع «القوات اللبنانية» بدءاً من عام 1988، والتي كانت تتراوح بين التوازن والغلبة لمصلحة «التيار»، فيبدو أنّ التطورات الأخيرة حسمت الغلبة لمصلحة «القوات» مع بروز قوة ثالثة مسيحية هي الناس التي تتحرّك اليوم من دون إطار حزبي ومن دون أن تفوِّض أحداً بعد الكلام باسمها، ولكنها أقرب إلى «القوات» منها إلى «التيار» الذي انتفضت في وجهه، وهذا ما يفسِّر رفض «حزب الله» و»التيار الوطني» أي انتخابات نيابية مبكرة كونها ستُفقد الأخير نصف وزنه المسيحي وحجمه النيابي، وستُفقد الحزب الأكثرية النيابية والغطاء المسيحي، فيما يعتقدان انّ الوقت سيكون كفيلاً بالحد من الخسائر إذا أجريت الانتخابات في وقتها الطبيعي في ربيع عام 2022.

وقد أثبت مسار عملية التكليف والتأليف مجدداً أنّ المعادلات التوافقية هي التي تحكم في لبنان، فلا سلاح «حزب الله» ولا الأكثرية التي يعتدّ بها مَكّنته من تسمية الرئيس المكلف على رغم نجاحه في اختراق البيئة السنية في الانتخابات الأخيرة، وهذا ما يفسِّر حرصه على تَجنّب استفزاز الشارع السني بتكليف يتعارض وتوجهات هذا الشارع، ولا ينبغي التقليل أيضاً من عامل أساس وهو أنّ تراجع وضعية حليفه المسيحي على المستويين الوطني والمسيحي دفعته إلى مزيد من التقارب مع الرئيس سعد الحريري وتيار «المستقبل»، واستطراداً الواقع السني، لأنه لا يريد أن يصبح معزولاً ومتروكاً.

فالغطاء المسيحي الذي وفّره العماد عون للحزب اعتباراً من عام 2006 تحوّل إلى نصف غطاء، فضلاً عن انّ «التيار الحر» دخل في مرحلة البحث عن كيفية ترميم وضعيته في ظل وضعية تراجعية وطنياً ومسيحياً، باعتبار أنّ المواجهة بين الناس والوضع العام لم تنتهِ بعد، كما أنّ البلاد لم تستعد بعد «الستاتيكو» الذي سبق 17 تشرين الأول ولم تَرس على «ستاتيكو» جديد، وبالتالي لا يستطيع في وضعه الحالي تحمُّل المزيد من الخسائر، ما يعني أنّ «التيار» أصبح بالنسبة إلى الحزب في وضع الطرف المعطّل، بل انّ الحزب كان في مرحلة سابقة في حاجة إلى باسيل وغطائه المسيحي، فيما باسيل أصبح اليوم في حاجة الى «الحزب» من أجل أن يتمكن من الحفاظ على مواقعه وإسقاط أي طروحات لها علاقة بتقريب موعد الانتخابات.

فالضرر الذي أصاب وضعية الوزير باسيل كبير، بمعزل عما إذا كان يقرّ به أو يتنكّر له، وهذا الضرر غير مسبوق منذ نشأة «التيار»، وارتداداته وانعكاساته الوطنية والمسيحية ليست قليلة، لأنّ أي تراجع منه سيقابله تقدّم خصمه القواتي الذي كان تقدّم أساساً عليه في الأشهر الأخيرة، وهذا ما يقلق «حزب الله»، إلى جانب خسارته الغطاء المسيحي وحاجته الى التبريد السياسي وتقطيع هذه المرحلة بالحد الأدنى من الخسائر، لأنّ كل مخططات «الحزب» التي تبدأ بالانتخابات الرئاسية ولا تنتهي بالانتخابات النيابية تبدّلت، وعليه أن يعيد كل حساباته.

ويكفي ان يتراجع «التيار الحر» ليتراجع تلقائياً «حزب الله» الذي لم يخرج بدوره من انتفاضة الناس من دون خسائر كبرى، فأمينه العام السيّد حسن نصرالله الذي اشتهر بخطاباته التي تترك للوضع اللبناني الدقائق الأخيرة، إذا به منذ 17 تشرين الأول يبدأ بالوضع اللبناني وينتهي به، بعيداً عن أدبيات المقاومة في المنطقة التي لا تريد ان تسمعها الناس الباحثة عن لقمة عيش في وضع ينزلق نحو مزيد من التدهور والانهيار.

وبالتوازي مع تراجع اهتمام بيئة «حزب الله» بأدبيات المقاومة وأيديولوجيتها، فإنّ اهتمام كل الشعب اللبناني يتركّز على الوضع المعيشي والمطلبي. وبالتالي، من المفيد في هذه اللحظة معرفة رد فعل الناس مثلاً على تلويح مفترض لنصرالله بالحرب من لبنان، رداً على أيّ استهداف أميركي لطهران، هذه التهديدات التي غابت عن خطاباته بفعل غضب الناس ووجعها المعيشي.

ولا يمكن التقليل أيضاً من هذا العامل الذي يدخل ويحفر في المزاج اللبناني الذي لم يعد يتقبّل خطابات أيديولوجية بعيداً عن همومه اليومية او الهدف منها تخديره، وذلك من منطلق أن لا أولوية تعلو على أولوية الحياة الكريمة، ما يعني أنّ الحزب فقد أرضاً خصبة لمواقفه ودوره الذي لا يقيم وزناً للاعتبارات الداخلية وهواجس الناس التي فرضت نفسها.

وفي موازاة تحوّل مزاج الناس نحو الأولويات الحياتية، فإنّ «الحزب» تلقى خسائر مباشرة تتصل بحلقة الانتلجنسيا من حوله المُشَكّلة من شيوعيين ويساريين ومستقلين سابقين كانوا ينظرون إلى الحزب كمقاومة، من جهة، وقوة تغيير داخل المجتمع، من جهة أخرى، وكانوا إلى ما قبل 17 تشرين الأول مقتنعين بالتبريرات التي يعطيها «الحزب» بأنّ انشغالاته وأولوياته تحول دون التفرغ للواقع الداخلي، فجاءت انتفاضة الناس لتفضحه بأنه شريك للمنظومة القائمة ربطاً بغرضيته المتصلة بالسلاح وحاجته الى توفير الغطاء لهذا السلاح مقابل تأمينه الغطاء لهذه المنظومة.

فالضرر الذي لحق بالحزب أيضاً ليس بسيطاً، مِن تراجع حليفه المسيحي وما يستتبع هذا التراجع، إلى تبدُّل المزاج اللبناني العام الذي أصبح مع أولويات مختلفة عن أولويات الحزب، فيما الدينامية الشعبية التي انطلقت لن تتراجع وتعكس ذهنية جديدة لا تريد العودة إلى الماضي وخطابات ما قبل 17 تشرين الأول التي أوصلت البلد إلى الانهيار، وهدفها الوصول إلى دولة حقيقية.

وفي كل هذه الصورة تجرى استشارات التكليف يوم الإثنين على وقع حراك الشارع والوضع المالي، في ظل سؤال أساس: هل تتمكن حكومة تكنو-سياسية من إخراج الناس من الشارع والوضع الاقتصادي من أزمته؟ ولأنّ الجواب هو كلا، فإنّ الأزمة مستمرة فصولاً.