ربما تكون الدعوة إلى استشارات نيابية يوم الإثنين مجرد مناورة سياسية لتنفيس الاحتقان السنّي من جهة، واحتقان الشارع المنتفض من جهة أخرى. ولكن، المؤكد أنّ قوى السلطة لم تبدِّل مخططها. فهي تتجنّب تشكيل حكومة اللون الواحد حتى لا يردّ عليها المجتمع الدولي بحصار قاتل، وتسعى إلى إحياء الحكومة الحالية إمّا بتعويمها (هناك سابقتان في تاريخ لبنان)... وإلّا فاستنساخها بشكل مُموَّه، أي باستخدام العنوان «التكنو- سياسي».
 

في عبارة أشدّ وضوحاً: بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحليفاتها، إنّ الحكومة الحالية، التي يتحكّم «حزب الله» بقرارها، هي حكومة لون واحد، ولكن مموَّهة، لأنّ «الحزب» استطاع تغطيتها بتنوّع سياسي وطائفي ومذهبي عديم الفاعلية.

ولا تقتصر التغطية على حلفاء «الحزب» من المسيحيين، ولاسيما «التيار الوطني الحر»، وبعض السنّة والدروز، بل أيضاً على القوى الأخرى المصنَّفة أساساً من 14 آذار أو الوسطية أو المستقلة كتيار «المستقبل» و«القوات اللبنانية» والحزب «التقدمي الاشتراكي».

فهذه القوى فقدت تموضعها الأساسي عندما انخرطت في الصفقة السلطوية عام 2016، ووافقت على المقايضة المعروفة: لـ«الحزب» خصوصيتُه التي يعترف بها الجميع استثنائياً حتى انتهاء الصراع القائم في الشرق الأوسط، فيُطوى كل بحثٍ من مسائل السلاح وخيارات الحرب والسلم. وفي المقابل يتمتع الشركاء بالسلطة ويتقاسمون المواقع والنفوذ، والغنائم طبعاً.

هذه الصفقة كانت الوصفة المثالية للخراب، لأنّها زوَّجت السلاح للفساد. ليس ضرورياً أن يكون «زواج متعة» لبعض القوى التي تحاذر أن توافق على الفساد، أو لبعض القوى التي ترفض تكريس السلاح، إلّا أنّ الجميع اقتنعوا بأنّه «زواج مصلحة»، وأنّ الطلاق ممكن في أي لحظة.

اليوم، هناك حالات طلاق داخل جماعة الصفقة. وهناك حالات «نصف طلاق»، وأخرى تُعتبر أقرب إلى الهَجر. فقد وقعت الواقعة وتفرَّق العشّاق. وعلى الأرجح أنّ هناك نادمين. ولكن، هناك مَن لا يزال يفتش عن موقعه في الصفقة الجديدة، ولو كانت استنساخاً للسابقة التي وقعت الكارثة في أحضانها.

الحكومة الحالية - المستقيلة - وتلك التي سبقتها منذ عام 2017، وما قبلها، كلها تتغذّى بوقود مشترك هو الفساد، الذي به أوصلت البلد اليوم إلى الانهيار المالي والاقتصادي والنقدي الذي تأخّر وقوعه سنوات على الأرجح، لا بسبب قدرة لبنان على الصمود، بل بسبب عمليات التنفس الاصطناعي التي كان يتلقاها من «المُحْسنين» العرب والأجانب.

ولكن الطاقم السياسي المنغمس في ملذات الفساد، ربما كان يدرك أو لا يدرك أنّ أحداً من الدول لا يمنح المال من دون مقابل. فهناك في النهاية ثمن سياسي سيُدفع للمانحين. ولطالما طُرِح السؤال: ما هو الثمن الذي يجب على لبنان أن يدفعه من أجل إنقاذه؟

على الأرجح، اليوم حلّ موعد الاستحقاق السياسي. وليس على الطاقم السلطوي أن يستغرب ما يمرّ فيه لبنان. على العكس، هناك مَن كان يعرف جيداً ما يجري. وهناك مَن كان يعرف أقلّ. لكن الجميع باتوا اليوم في الجوّ تماماً. وليس لهم إلّا أن يختاروا.

وفي عبارة أخرى، عليهم أن يختاروا ما هو السبيل الأفضل لخروج البلد من المأزق. لكنهم في الغالب ما زالوا يفتشون عن سبيل لإبعاد أنفسهم عن النار. وأمّا مصير البلد فما زال مسألة قابلة للنقاش.

طرفا التركيبة السلطوية لا يبديان اليوم أي رغبة في نسفها، بل يسعيان إلى تكريسها واستثمار مفاعيلها: «حزب الله» يعتبر لبنان منصة متقدمة، في شرق المتوسط، لحماية النفوذ الإيراني.

وأما القوى الشريكة في الحكم فلا شيء يهمُّها إلّا استمرار التمتع بالنفوذ والمغانم. والأهم بالنسبة إليها هو عدم الانزلاق إلى مكان تنكشف فيه الفضائح وتتحقق المحاسبة، لأنها ستكون عسيرة. وهذه القوى لا يهمها هدف «الحزب» الاستراتيجي، ولكنها تتمسّك بالتركيبة القائمة لغايات أخرى.

الآن، السيناريو المتوقع، وفق ما يتقاطع من معلومات، هو الآتي:

إذا تجرّأ الطاقم السلطوي على استنساخ تجربة الحكومة المستقيلة، فإنّ القوى الشعبية المنتفضة ستعتبر ذلك تحدياً كبيراً لها، وإنكاراً لما حققته منذ 17 تشرين الأول الفائت. وهذا ما سيتسبّب بموجة عارمة وشاملة من الرفض والاعتراض.

كما أنّ المجتمع الدولي - ولا سيما منه الولايات المتحدة - سيضع الحكومة المستنسخة في خانة واحدة مع حكومة اللون الواحد. وهذا يعني أنّ هذه الحكومة ستواجه بالحصار الخانق الذي تحاول قوى السلطة أن تتجنّبه. وسيقود ذلك إلى كارثة مريعة اقتصادياً ومالياً ونقدياً لا يمكن أن يتحملها البلد.

وإزاء هذين الواقعين، النقمة الشعبية العارمة والكارثة الاقتصادية - الاجتماعية، لن يكون ممكناً لأحد أن يقدِّر التداعيات والعواقب. ويكفي التذكير بما يلوِّح به الناس عبر شاشات التلفزة ومواقع التواصل من أعمال شغب وتحطيم وإحراق، إذا وصل بهم الأمر إلى الجوع.

فليس صعباً على مواطنٍ قرّر الانتحار، أن يقوم بأعمال الشغب، ضد أيّ كان وأي شيء كان ولأي سبب كان، ومهما كانت العواقب. فالقوى المولجة بالأمن موزّعة اليوم: تحمي المتظاهرين والمعتصمين، وتحمي المؤسسات العامة والمرافق، وتحمي حقّ الناس في المرور، وتحمي المصارف، وتحمي الزعماء والمسؤولين… وتحمي نفسها!

فهل مطلوب منها أن تتوزع أيضاً على محطات الوقود والأفران والسوبرماركت والمدارس والجامعات والمستشفيات والصيدليات وسواها؟ وهل يكفي الأمن للحماية؟

سيكون خطأ فادحاً إيهام الرأي العام بأنّ الحكومة التكنو-سياسية هي نصف الطريق نحو حكومة التكنوقراط، فيما هي عملياً نصف الطريق نحو حكومة اللون الواحد.