معضلة قاسم سليماني الأشد ثقلا، هي أن نظامه سقط في لبنان والعراق وفي إيران نفسها، ولو أوحى العهن المنفوش أن له بقية. والتظاهرات التي تخرج كل يوم للتنديد بالفساد والفشل، هي بالأحرى تظاهرات تشييع.
 

تواجه سلطة قاسم سليماني في العراق ولبنان معضلات أشبه بجدار يخبط به رأسه كل يوم.

أولها، أنه يطلق النار ويقتل المئات في العراق، بينما لا يجرؤ على أن يُطلق النار في لبنان. والمعضلة ليست في القتل أو عدم القدرة عليه، وإنما في أن نظامه إذا سقط في العراق، فإنه سقط في لبنان، والعكس صحيح، حتى لتكاد “خبطة” الرأس تقول: ما نفع القتل من الأساس، وما الفرق الذي يُحدثه إذا كان السقوطُ آتيا، آتيا.

المعضلة الأخرى، هي أن القتل الذي يُراد له أن يكسر شوكة الاحتجاجات، بات يزيدها لهيبا ويكشف عن الطبيعة الجرائمية للنظام وميليشياته ومرجعياته وصفوييه. فكلما سقط ضحايا جدد، خرج المتظاهرون لتشييعهم على الأقل. فتكون تظاهرات أخرى. وكلما زادت أعداد القتلى، قلت رهبة الخوف من الموت، وارتفعت نسب الغضب.

وللشهداء حافزهم، ثانيا. إذ أن دمهم المسفوح يظل يطلب الثأر في ثقافة العراقيين، وشاهدهم- شاعرهم الأكبر، يقول “أتعلم، أم أنت لا تعلم، أن جراح الضحايا فمُ. فمٌ ليس كالمدّعي قولة، وليس كآخر يسترحمُ”. وهذه معضلة تزداد كلما أمطر الرصاص على رؤوس المتظاهرين، حتى ليقول الشاهد “أتعلمُ أنّ جِراحَ الشهيد، تظَلُّ عن الثأر تستفهِم”، فتقول لكل من يحمل الجثمان على أكتافه، “تَقَحَّمْ، لُعِنْتَ، أزيزَ الرَّصاص، وَجرِّبْ من الحظّ ما يُقسَم”.

والقتل الذي استحث قصيدة “أخي جعفر”، في أيامها، لم يُوقع إلا أفرادا أقل من أصابع اليد، فلم ينجُ الفاعلون من التمزيق، فما بالك بالمئات اليوم؟ والدمُ إنما يسأل المجرمين إلى أين المفر؟ ووشاحه يربط الأول بالآخر إلى وتد القيامة قائلا لكل جعفر بين المتظاهرين “وخُضْها كما خاضَها الأسبقون، وَثنِّ بما افتتحَ الأقدمُ”.

المعضلة الثالثة هي أن الفساد مكشوف، ومعروفة أحزابه، وأن أحدا لا يستطيع أن يُخفيه، وكل التوريات والأحابيل لم يعد بوسعها أن تنطلي. وهذا ما يجعل كل ما تفعله عصابات الحرس الثوري عاجزة عن أن تقدم حلا، وأن المخارج تضيق عليها هي نفسها حتى لتختنق بما لا تتسع له أبواب الهرب. ورعاعها يعرفون أنهم عاجزون عن الهرب من الأساس، لأنهم لم يحصلوا على إذن من ولي أمرهم الذي لا يريد لهم أن يتركوا الملعب فارغا. ولأنه لا مكان يختفون به بما نهبوا إلا إيران.

وكلما ضاق الخناق على ميليشيات سليماني، اتسعت فسحة الحرية. وكلما زاد الموت برصاصها، انفتح أفق جديد للحياة.

المعضلة الرابعة هي أن الفقر فقرٌ شديد. وأنه أصاب الملايين فالملايين حتى زادت رقعة الفتق على قماشة الترقيع، وما عاد في البلاد مال يكفي لتمويل الميليشيات، فكيف بتمويل احتياجات تبددت على الناس، من الأساسي والبسيط، حتى لم يعد هناك ماء نقي ولا كهرباء ولا تعليم ولا مستشفيات. ولا عادت هناك مؤسسات ترعى حقوقا ولا قيما ولا قوانين، إلا ميليشيات المحاصصة الطائفية، وإلا عمائم الزيف والتزوير والتزويق.

والمعضلة الخامسة، هي أن اقتصاد الفساد ما كان بوسعه أن يبني اقتصادا. لأن المال إذ يتسرب خارج دوائر البناء والتنمية، فإنه يترك عمارة المجتمع عارية من كل قدرة على العيش الكريم. والناس عراة في الجوع والتشرد والبطالة، حتى أصبح الشارع سترهم الوحيد، فخرجوا إليه، يلوذون بأمل أخير.

والمعضلة السادسة هي أن الطائفية باتت عارا وشتيمة، حتى لم يعد بوسع الطائفيين أن يتلبسوها. وهذا ما يزيل الغطاء عن “المظلوميات” الكاذبة و”ثارات الحقد” الدفين والتمايزات بين بشر وحّدهم الفقر والتهميش، وليعرفوا أن أدوات تلك “المظلومية” ما كانت إلا متاع فاسدين ومأجورين.

والمعضلة السابعة، هي أن إيران التي أفلسها نظام الولي الفقيه، لن يمكنها أن تُغني أحدا، ولا أن توفر له حماية ولا حتى سترا عندما تنهار سلطتها هي الأخرى. فالأثر الذي يمتد من العراق إلى لبنان، ومن لبنان إلى العراق، يكشف لعشرات الملايين من الإيرانيين، كم أن سقوط نظام الولي الفقيه بات هو الباب الوحيد لخروجهم من مستنقع الجهل والتخلف والعنف.

المعضلة الثامنة هي أن دولة المحاصصات الطائفية، ليست دولة. إنها زريبة فحسب للمنتفعين. وإذ إنها لا تصلح للعيش في عالم اليوم، فإن عجزها محكوم بنبذها، ونبذها محكوم بعجزها، وإن “المجرشة” (المطحنة) التي ظلت تطحن فشلا، ما عاد بوسعها أن تدور. فقال الفقير للفقير “ذبيت روحي على الجرش، وأدري الجرش ياذيها”، “ساعة وأكسر المجرشة، وألعن أبو راعيها”.

أجيال من اللبنانيين والعراقيين والإيرانيين، تعرف الآن أنها وقعت ضحية بؤس الجَرْش، وبؤس المجرشة، تلك التي سلّطها “الإسلامُ السياسي” عليهم، فانتفضوا ليحطموها.

المعضلة التاسعة، هي أن الأوطان ظلت أوطانا، وأن المشاريع السياسية العابرة للحدود، لم تعد تغري إلا سقط المتاع. وهو ما يعني أن الميليشيات التي يراهن عليها سليماني تكتشف بنفسها كم أنها لا تمثل هوية يُعتد بها، ولا انتماء، ولا كيانا، إلا الهراء.

معضلة قاسم سليماني الأشد ثقلا، هي أن نظامه سقط في لبنان والعراق وفي إيران نفسها، ولو أوحى العهن المنفوش أن له بقية. والتظاهرات التي تخرج كل يوم للتنديد بالفساد والفشل، هي بالأحرى تظاهرات تشييع.