انفجارُ الملايين التشرينية الباسلة ولجوؤها إلى الثورة ضد النظام الإيراني ووكلائه، وتمزيقُ صور الخميني وخامنئي، وحرقُ قنصليات إيران في النجف وكربلاء والبصرة، برهان على أن الطائفة الشيعية العراقية أثبتت أن الحمية القومية والوطنية تسبق الولاء للطائفة.
 

من الأمور التي يجهلها كثيرون عن الشيعة العراقيين العرب أن لهم سجلا طويلا وعميقا من النفور المتبادل بينهم وبين سكان الجارة الشرقية من القومية الفارسية، من قرون، لم تستطع الرابطة الطائفية التغلب عليه وتحويله إلى ثقة ومودة وأخوة راسخة.

وقد كان هذا النفور أكثر ظهورا أيام الشاه، بسبب ارتفاع منسوب الكبرياء القومية والعنجهية لديه وتعاليه على جيرانه العرب، بمن فيهم أبناءُ طائفته العراقيون.

وقد زاد نفورهم منه ومن “فارسيته” المتضخمة وسياساته العدائية المتغطرسة حين أقدم على احتلال جزر الإمارات العربية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، وما رافق ذلك من تصريحات عنصرية متعالية على العرب أجمعين، أطلقها إعلامه وأعوانه ووزراؤه الكبار.

وحين بدا أن القرار “الأممي” برحيل نظام الشاه قد صدر، وأن الإمام الخميني قادم إلى طهران من باريس على متن طائرة فرنسية، مرفوقا بالعشرات من المعممين، لحكم إيران، تفاءل العراقيون، والشيعة منهم بوجه خاص، وتمنوا أن يكون العهد الجديد أكثر اتزانا وعقلانية من حكم الشاه، وأشد رغبة في إحلال التفاهم والتعاون والمسالمة والمسامحة في علاقات الدولة الجديدة مع جيرانها العرب.

وتوقعوا أن يكون أول قرار يتخذه الإمام الحاكم الجديد هو إعادة الجزر الثلاث إلى دولة الإمارات ليُظهر حسن نواياه، وليطمئن إخوته في الدين من العرب وغيرهم، وليطوي صفحات التعالي القومي العنصري الذي ميز عهد الشاه.

وذلك لسببين، الأول إعلانُه، وهو في باريس قبل تسلمه السلطة، أن نظامه ديني إسلامي يناصر المسلمين، ويدافع عن قضاياهم، وخاصة قضية فلسطين.

والثاني أنه عاش سنوات في العراق ضيفا معززا ومكرما على الشعب العراقي، وبالأخص على شيعة النجف ومَراجعها، وتقضي الأصول من باب ردّ الجميل، بأن يكون وفيا لتلك الضيافة، عاملا على إنهاء سياسات الاستفزاز والتعدي والتعالي على العراقيين، وخاصة على إخوته في الطائفة، ومكافأتهم بإقامة علاقات أخوية جديدة حقيقية، مثمرة وراسخة تقوم على الاحترام المتبادل وعلى حسن الجوار.

ولكن أمل الجميع بدأ يخيب بسرعة ومن الأيام الأولى لعهده. فقد تبين أن الخميني حاقد أكثر من الشاه، ليس على صدام الذي طرده من النجف، بل على العراقيين وعلى العرب أجمعين، وراغب في احتلال أوطانهم، وفرض “ثورته” عليهم بقوة السلاح.

ومن أول وصوله، في مطلع شهر فبراير عام 1979 إلى إيران، بدأ يبشر بنظريته الجديدة القائمة على فكرة تصدير الثورة إلى دول الجوار، مستهدفا العراق، أولا، للانطلاق منه إلى الدول العربية الأخرى، وإعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية من جديد بقيادته، معلنا أنه ينوب عن الإمام الغائب، وجاعلا نفسَه الولي الفقيه.

لقد ألغى جميع قرارات الشاه وأفعاله، وجرَّم سياساته جميعها، ما عدا قرار احتلاله للجزر العربية الثلاث، حيث أصر على اعتبارها أملاكا إيرانية مُستعادة، متمسكا بنفس الذرائع والحجج التي استخدمها الشاه، رافضا أي حوار أو أي تحكيم بشأنها.

ثم بدأت تحرشاته الإعلامية والأمنية بالعراق تتكرر وتتكاثر، وتتحول إلى حرب باردة غير معلنة، عامدا إلى استخدام العباءة الطائفية لتأليب الشيعة العراقيين على نظام صدام حسين، وتجنيدهم لخدمة حربه التي استمرت ثماني سنوات أكلت الأخضر واليابس وتسبب فيها بقتل مئات الألوف من العراقيين.

ومن الثابت تاريخيا أن تسعين في المئة من ضباط الجيش العراقي وجنوده الذين حاربوا نظام الخميني “الشيعي” وصمدوا في قتاله ثماني سنوات، وهزموه، كانوا شيعة.

وهذا هو السبب الرئيسي لقيام جواسيس المخابرات الإيرانية، وعناصر ميليشياتها العراقية، بعد الغزو الأميركي وهيمنة إيران على العراق، بشنّ حملة اغتيالات طاولت كبار القادة العسكريين والطيارين والخبراء والعلماء العراقيين الذين استبسلوا في مقاتلة الجيش الإيراني، وأكثرُهم شيعة.

إلا أن تلك الاغتيالات والملاحقات، بالإضافة إلى اعتماده سياسة التجويع والإفساد والتخريب والترهيب ضد عموم الشعب العراقي، ومنهم بل في مقدمتهم، سكان محافظات الجنوب، كانت سلاحا ذا حدين على النظام الإيراني.

فقد نبّهت الشيعة العراقيين إلى قوة الحقد العنصري الفارسي التي يختزنها الملالي لكل عرب العراق، دون أن يستثنوا منها إخوتهم في المذهب والعقيدة.

وأكبر دليل على ذلك فظاظة ضباط الحرس الثوري المدسوسين في دوائر الحكومة العراقية ومؤسساتها المدنية والدينية، وقلة حياء وكلاء الولي الفقيه العراقيين، وممارساتهم التسلطية، وإفسادهم وظلمهم وسرقاتهم، وخصوصا في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية ذاتها.

حتى جاء انفجارُ الملايين التشرينية الباسلة، أخيرا، وخروجُها عن صمتها، ولجوؤها إلى الثورة التحررية ضد هيمنة النظام الإيراني ووكلائه المكروهين، وتمزيقُ صور الخميني وخامنئي في مدن شيعية عديدة، وحرقُ قنصليات إيران في النجف وكربلاء والبصرة، برهانا على أن الطائفة الشيعية العراقية، من جهتها، أيضا، أثبتت أن الحمية القومية والوطنية تسبق الولاء للطائفة، عند الشدائد.

نعم، فقد ثبت لهم ولغيرهم أن العيش في وطن حر مستقل عزيز قوي موحد وعادل سوف يوفر لهم احتياجاتهم الحياتية، ويحافظ على كراماتهم، بعد أعوام من القهر والظلم والإذلال والابتزاز لم يُعطهم فيها الولي الفقيه غير الأكاذيب والخرافات والمخدرات والاغتيالات والمفخخات.

ولسنا هنا في حاجة إلى التذكير بمدى احتقار المرجعيات الفارسية في إيران للعنصر العربي حين جعلت الدستور الإيراني ينص على أن “رئيس الدولة يجب أن يكون شيعيا، من أبوين فارسيْين”.

وقد فهم الشيعة العرب من هذا النص العنصري الخارج عن حدود العقيدة الإسلامية التي لم تفضل عربيا على عجمي إلا بالتقوى أن الإمام الغائب لو عاد فلن يكون مسموحا له برئاسة جمهورية الخميني، وذلك لأنه عربي هاشمي من قريش، وليس فارسيا من أبوين فارسيين.