الطبقة السياسية تعي تماما خطر دخول العشائر على خط التظاهرات وما يمنحها من ثقل كبير وحماية من القمع.
 
 كشفت الاحتجاجات الشعبية الواسعة في مدينة الناصرية جنوب العراق عن استعداد العشائر القوية في المنطقة للانقلاب على الحكومة، بعد أن كانت تعدّ حاضنة وظهيرا شعبيا وازنا لها.
 
وقبيل أن يتقدم باستقالته، تسبّب رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي في مجزرة للمحتجين في مدينة الناصرية التي هي مسقط رأسه، حيث قتل  نحو سبعة وأربعين متظاهرا وجرح نحو ألف آخرين خلال ساعات، برصاص القوات الأمنية التي تأتمر بأوامره كقائد عام للقوات المسلّحة. ولدى انجلاء الغبار عن ساحة الحبوبي التي شهدت هذه المجزرة، تبيّن أن حجمها لا يمكن السكوت عنه، إذ حمل أبناء العشائر السلاح مباشرة وتوجهوا إلى نقطة الاحتجاج الرئيسية في الناصرية، متعهدين بحماية المتظاهرين.
 
وبالتزامن مع ذلك توجّه وفد من شيوخ العشائر إلى مقر قيادة الشرطة حيث التقوا كبار الضباط ودار حديث حاد بينهم، إذ أقسم هؤلاء الضباط بأن القوة التي قتلت متظاهري الناصرية، الخميس الماضي، قدمت من بغداد وبقيت لمدة ساعات في المدينة قبل أن ترتكب مجزرتها وتغادر على الفور.
 
ولم يقتنع شيوخ العشائر بهذا التفسير واستغربوا كيفية حديث الشرطة عن قدوم قوات مجهولة إلى المدينة لتقتل المتظاهرين من دون علمها، متعهدين علنا بـ“سحق عبدالمهدي وضباطه إذا تجرأوا على الناصرية مرة أخرى”.
 
وعندما ظهر تسجيل مصور للحديث الذي دار في مقر شرطة الناصرية وشيوخ العشائر، تبيّن حجم الدور الذي يمكن أن تلعبه العشائر في نصرة المحتجين الذين يتعرضون لقمع دموي تسبب في عدد غير مسبوق من القتلى والجرحى في الحركات الاحتجاجية.

وظهر الضباط وهم يتوسلون شيوخ العشائر أن يهدأوا، فيما استمر شيوخ العشائر بالتصعيد، وهو ما اضطر قائد شرطة المدينة وعدد من معاونيه إلى الاستقالة.

ويبدو أن الطبقة السياسية استشعرت خطر دخول العشائر على خط التظاهرات وما يمنحها من ثقل كبير وحماية من القمع، لذلك تحركت بسرعة لاحتواء الموقف.

وأول ثمار الحراك الحكومي وثيقة وقّعها شيوخ بعض عشائر مدينة البصرة تتعهد بالتزام أوامر المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في ما يتعلق بسلمية التظاهرات.

وبالنسبة إلى المتظاهرين فإن الجهات التي تشدد دوما على ضرورة أن تحافظ التظاهرات على سلميتها، تضمر موقفا مضادا لحركة الاحتجاج، التي التزمت بالسلمية منذ انطلاقتها لكنها قوبلت بعنف حكومي مفرط.

وتقول مصادر سياسية عراقية إن حكومة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي، التي تحولت إلى تصريف الأعمال اليومية، تتحرك فعليا باتجاه شيوخ عشائر في مناطق وسط وجنوب العراق، للتوصل إلى ما يشبه التحالف القبلي، الموجه نحو احتواء حركة الاحتجاج.

وتؤكد المصادر أن الحكومة تعرض مغريات كبيرة على شيوخ العشائر التي تلتحق بهذا الحلف، مثل منحهم درجات وظيفية يوزّعونها على مقربيهم أو منحهم تسهيلات في قطاع استملاك الأراضي وزراعتها، مشيرة إلى أن خطة الحكومة بدأت من البصرة للاستفادة من التنافس الكبير بين عشائرها وعشائر الناصرية، التي تنحاز تدريجيا نحو حركة الاحتجاج، رغم المصالح الكبيرة التي تربط بعض شيوخها بالحكومة وأحزابها السياسية.

ووفقا للمصادر، فإن الحكومة تنوي توسيع حراكها قريبا ليشمل مدينة النجف، التي يتحرك فيها المحتجون الغاضبون منذ أيام لإحراق جميع مقرات الأحزاب الموالية لإيران أو مراقد رجال الدين الذين عُرفوا برعايتهم لأحزاب الإسلام السياسي.

ويقول مراقبون إن الحكومة العراقية تستعيد نموذجا ابتكره الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، عندما أطلق ما عرف آنذاك بـ“شيوخ التسعين”، وهم شيوخ عشائر اشترى حزب البعث الحاكم آنذاك ولاءهم بالمال بعد تراجع شعبيته بفعل غزو الكويت وما تلاه من حرب وحصار في تسعينات القرن الماضي.

وحتى الساعة ما زال بعض زعماء القبائل الذين باعوا ولاءهم لصدام يعرفون بـ“شيوخ التسعين” في نسبة تحقيرية إلى تلك الحقبة، ما يشير إلى أن تعويل الحكومة على شيوخ العشائر ليقفوا ضد اتجاه الشارع، سيأتي بنتائج عكسية.