اولا: وزير المالية والشكوى الدائمة...
 
سمعتُ اليوم وزير المالية علي حسن خليل يشكو جحود الرّعية من أهله الذين خرجوا في انتفاضة مُريبة، يريدون شرّاً مُستطيرا: تعطيل أحكام الدستور وتخريب النظام، والانقلاب على نتائج الانتخابات البرلمانية "النزيهة"، التي جاءت به نائباً، مع ستّة وعشرين قريناً له، رعيّة جاحدة تريد أن تُخرج معالي الوزير من محراب وزارة المالية إلى الشارع، ويلكم، وويل آبائكم فيما تُضمرون، وفيما تُخطّطون،  عودوا إلى رشدكم، ولا تتمادوا في غيّكم، وأطيعوا أولي الأمر منكم، ولا تكونوا كأهل تلك القرية التي ضربها الله تعالى مثلاً فكانت " آمنةً مُطمئنّةً يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكانِ فكفرت بأنعُم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" (سورة النحل، الآية ١١٢).
 
الوزير الغارق في الفساد وصرف النفوذ والإثراء غير المشروع يشكو بثّه وحزنه للناس التي لم تغادر الشارع والساحات منذ حوالي خمسة وأربعين يوماً تشكو الجوع والعطش والفقر والعوَز، من سياساته المالية والاقتصادية وسياسة اضرابه الحكام، قال الشعبي: ما سمعتُ الحجاج يوماً يشكو ممّا يُلاقيه من أهل العراق، إلاّ وظننتّ أنّه مظلومٌ، وهم له ظالمون،  يبدو هذه هي الحال مع الوزير وشعبه "الظالم".
 
ثانياً: المقامة الخليلية...
 
ذكّرني خطاب معالي الوزير خليل بحادثة حصلت معي في زمنٍ ليس بالبعيد، فقد قصدني قريبٌ لي في خدمة لدى وزير المالية علي حسن خليل، فاعتذرتُ وحاولتُ التّملُّص، وحلفتُ له بأغلظ الأيمان بأن لا معرفة لي به، ولا سبيل لديّ إليه، فأفحمني بقوله: صحيح أنّك لست من أهل البويوتات، إلاّ أنّك من أهل العلم، وتحمل لقباً يفتح لك الأبواب، فأخذتني العزّةُ في ذلك، ومن ثمّ تنطّحتُ لهذه المهمة الشاقة، وكان علينا أن نسعى لمقابلته أولاً، إلاّ أنّنا لم نجده في منزله، وقصدناهُ ثانياً فمُنعنا من الدخول إليه، وقصدناهُ ثالثاً فذُكرَ أنّه ركب، وقصدناهُ رابعاً فقالوا هو في الحمّام، وقصدناه خامساً فقيل هو نائم، وقصدناه سادساً فقيل عنده صاحب بريد وزارة المالية وهو مشغولٌ معه بمُهمّ، وقصدناه سابعاً في مكتبه فذُكر أنّه رسمَ أن لا يُؤذن لأحد، وقصدناه ثامناً فذُكر أنّه يأكل ولا يجوز الدخول إليه بوجهٍ ولا سبب، وقصدناه تاسعاً فذكر أنّه يستعدّ لشرب الدواء، وقصدناه عاشراً فذكر أنّه كان جالساً في مكتبه ونهض في هذه الساعة لأمرٍ جلل، وقصدناه الحادي عشر  فألفيناهُ في طريقه للسراي الحكومي، وقصدناه آخر مرة فسُهّل لنا الإذن. 
 
ودخلنا في غمار الناس، والناسُ على طبقاتهم جلوس، وجماعةٌ قيام يرتبون الناس ويخدمونهم، فاتّفق له عزاءٌ وشُغلَ بغيرنا، وبقينا في صورةٍ من احتقان البول والجوع والعطش، فقال لي قريبي: هذا اليوم الذي قد ظفرنا به وتمكّنا من دخول داره، صار عظيم المصيبة علينا، ليس لنا إلاّ مهاجرة بابه والإعراض عنه، وقمع النفس الدّنية بالطمع في خيره، فقلت له معتذراً مُواسياً، لعلّ عُذره اليوم كان واضحاً، فإذا انقضت أيام التعزية قصدناه، فقال لي يائساً: لو علمت أنّ داره الفردوس، والدخول عنده الخلود فيها، لما قصدته بعد ذلك، وأنشأ يقول:
 
طلبُ الكريم ندى يد المنكودِ
كالغيث يُستسقى من الجلمودِ
فافزع إلى عزّ الفراغ ولُذ به
إنّ السؤال يريدُ وجهَ حديدِ.