بدأ الحراك الأخير في لبنان احتجاجاً على ظروف معيشية صعبة. كان بإمكان السلطة احتواءه بسرعة، بأن تتخذ قرارات وإجراءات مباشرة تولد في قلوب الناس الشعور بالأمان، وتحفظ القدر الضئيل من الثقة أو حسن الظن بالسلطة.   لكن شيئاً من هذا لم يحدث، واكتفت، عبر أقنعتها المتعددة، بإبداء التعاطف وإلقاء اللوم على مجهول، وتعليم الناس أدب التظاهر وأصول التعبير والتقيد بالقوانين. 

 تطور الاحتجاج إلى مطلب سياسي، بالدعوة إلى تأليف حكومة إنقاذ تضم قدرات متخصصة ومتحررة من سطوة الفساد الذي بات شبكة منتشرة في كل الجسم السياسي.  ظل المطلب في حدود التواصل بين شعب وممثليه، بين مواطنين يُحمِّلُون أصحاب القرار مسؤولية عملهم والتصرف وفق ما تقتضيه حساسية الوضع الاقتصادي والتردي الخدماتي. 

كان بإمكان السلطة الاستجابة لهذا المطلب من دون أن تخسر الكثير.  لكن كانت ردة فعلها، عبر أقنعتها المتلونة، القول باستحالة هذا المطلب وإصرارها على حكومة تمسك بخيوطها وتتحكم بها. بل انتقلت من التعاطف الظاهري مع الحراك إلى التواجه معه وتصويره بأنه شلة سذج وغوغاء توجههم سفارات وتخترقهم أجهزة استخبارات معادية.  بل أخذت تلوح لهم بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وتُحرِّك شارعاً مضاداً، تراوح بين نزول خجول ومتردد وظهور غوغائي ومُخرِّب. 

إذا كان الحراك قد كشف عما يحمله المجتمع اللبناني من إمكانيات هائلة وروح متوثبة وحس وطني رفيع، وولد في كل لبناني الأمل بأن المستقبل صناعة وإبداع وليس قدراً.  فإنه كشف لنا بالمقابل، بل فضح قوى سلطة ذات خصائص خطيرة، استطاعت تمويهها سابقاً بِلُعبٍ لغوية، وصخب دعائي، وبراعة تمثيل.      

 تعامل السلطة مع الحراك الشعبي، كشف: 

 عن قوى تريد السلطة لأجل السلطة، وتجعلها غايتها ومنتهاها، سلطة تقتل وتفتك وتدمر لأجل بقاءها. سلطة ترى النفوذ ملكاً شخصياً، وموارد الدولة حقاً خاصاً، والمرفق عام شركة مساهمة تنحصر منافعه بحلقة مغلقة من المنتفعين. 

عن هوة عميقة بين قوى السلطة والمجتمع، حيث العلاقة بينهما علاقة راع ورعية، قائد وحشود فارغة، زعيم وزبائن، خدمات مقابل ولاء أو صمت مطبق، رعاية مقابل ضمير ميت.

عن سلطة تنتج تناقضاتها باستمرار، بل هي مصدر الأزمة وموطن الخطر الحقيقي الحالي والقادم. سلطة لا تكتفي بالتبجح بالفشل، بل تصر على تكراره واستمراريته وبقائه، وتظن بغبائها أو استغباء الناس، أن الفشل طبيعة الأمور، والنهب سنة السياسة وثمرات السلطة.

عن قوى سلطة قوامها قيادات وصلت بنرجسيتها إلى حد الهذيان. وتعتقد أن أدوار النقاء والقداسة والاصطفاء والأبوة والترفع والزهد، ما تزال تجد لها رواداً ومرتادين.  قيادات وصل الإعتداد بنفسها وسمو مكانتها حداً جعلها تعتقد أن الحراك كان لغيرها ولا يمكن أن يقصدها، وإذا قصدها فهو مجرد قطاع طرق. 

عن قوى سلطة لا تسمع ولا تنصت بل تملي وتأمر، سلطة تحذر من النقاش، ويقلقها الوعي العام، وترعبها المساءلة والتفاعل الاجتماعي خارج وصايتها ورقابتها.  

عن قوى سلطة تهدد بالفتنة بدل أن تبددها، تهدد بالحرب الأهلية بدل أن تسد أبوابها، تهدد بالانهيار الاقتصادي بدل أن توفر شروط حياة لائقة، تبتز المواطن بضروراته الحياتية من خبز ودواء وعلاج بدل أن يكون توفرها من بديهيات ومسلمات الأمور.

عن قوى سلطة لا تملك أدنى شفافية، بل تكذب وتراوغ وتزيف، ولا ترى نفسها ملزمة بقول الحقيقة ومصارحة الناس، ولا مرغمة على الإقرار والإعتراف بالخطأ رغم علمها بأنها موغلة في الخطيئة.

عن قوى سلطة لا تتورع عن ممارسة الترهيب والقمع بأسلوب ناعم حيناً ومتوحش حيناً آخر، بأن تبتز الناس وتهددهم (وتغريهم) في أرزاقهم ووظائفهم، بتحريك زبانيتها ومرتزقتها في الشوارع والأزقة، بتزييف صور إعلامية مضخمة لقياداتها ورموزها. سلطة تخلق الخوف وتزرع القلق وتحفز على النفاق. سلطة تعمم العدوانية الجماعية وثقافة التبعية. سلطة تحث على الحماقة ومدح الحمقى وجعلهم واجهة القوم، سلطة ترسخ شعور الناس بالنقص والقصور والتقصير.

عن قوى سلطة ما تزال تعتقد أنها تملك جمهوراً عريضاً وكاسحاً، وفي حالة جهوزية للانقضاض على الحراك المطلبي بإشارة من قيادتهم.  لم يعلم هؤلاء أن جمهورهم بات في حالة ذهول نفسي وتشتت ذهني وارتباك أخلاقي وخجل وطني أمام ظاهرة تقابل عداوتهم بمحبة وعدوانيتهم بتسامح وتبقي باب الإنضمام إليها مفتوحة للجميع.  

عن قوى سلطة، لم تلتقط حتى الساعة روح الحراك وأفقه ودلالاته، فقرأها البعض عمالة خالصة، ورآها البعض الآخر حزباً يضاف إلى باقي الأحزاب، أو ربما طائفة جديدة لا يمانعون تقاسم الغنائم معها، وآخرون مجرد انقلاب على مكاسبهم ومنجزاتهم . لم تدرك جميع هذه القوى وقد تدرك لكنها لا تصدق، أنبثاق إرادة مجتمعية كاسحة اخترقت قواعد لعبة هذه القوى وعرّت قيمها وأسقطت محرماتها.  

تبين ان مشكلة لبنان العميقة، ليست في الأزمة الاقتصادية رغم خطرها، ولا في الفساد المنتشر رغم ضرره السرطاني، بل في كيان مُنتهك، ودولة مُصادرة ومفككة، ومجتمع مُنهك ومُنهار، وفرد مغيَّب يعاني أشد صور الاغتراب الحياتي والوجودي.

لبنان وشعبه يستحقان أفضل من هذا بكثير.