يروي سياسيون انّ الأميركيين دخلوا على خط الازمة الحكومية المستجدة منذ ما قبل استقالة الرئيس سعد الحريري تحت عنوان «حكومة الاختصاصيين»، وقد عمّموا هذا العنوان على كل القوى السياسية اللبنانية المؤيدة لهم، وكذلك على حلفائهم الاقليميين والدوليين، وقد برز هذا العنوان في الخطاب السياسي لكثير من هؤلاء ووصل حتى الى خطاب الحراك الشعبي منذ بداية انطلاقته.
 

قال الاميركيون بـ«حكومة الاختصاصيين»، حسب هؤلاء السياسيين، ولكنهم لم يوفدوا أحداً الى لبنان لشرح موقفهم الذي أبلغته سفيرتهم في بيروت اليزابيت ريتشارد على طريقتها الى المسؤولين والقيادات السياسية التي التقتها، ولكن ظل مجهولاً جانب مما أبلغته الى الحريري الذي استقال بعد يومين من زيارتها له، والتي يقال انها رسمت خلالها على مسامعه خطين أحمرين حول حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش.

تناقضات الروايات عمّا اذا كان الحريري استقال من تلقاء نفسه نتيجة ضغط الحراك الشعبي الذي شَل البلد، أم انه استجاب لنصيحة ما داخلية او خارجية بهذه الاستقالة في الوقت الذي كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه و»حزب الله» و»التيار الوطني الحر» مع حلفائهم، يصرّون على بقاء الحكومة الى درجة الى انّ الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله قال علناً انّ حكومة الحريري «لن تستقيل» وانّ عهد عون «لن يسقط».

المشهد السائد الآن منذ اجتماع باريس الاخير الاميركي - الفرنسي - البريطاني، والذي سيليه اجتماع آخر قريب، هو انّ الفرنسيين يتمسكون بقوة ببقاء الحريري في رئاسة الحكومة على رغم إعلانه عزوفه عن قبول التكليف لتأليف حكومة جديدة. وفي الوقت نفسه لا يمانع الاميركيون والبريطانيون هذه الرغبة الفرنسية، بل انهم أطلقوا اليد الفرنسية في هذا الشأن اللبناني للمساعدة على حل الازمة، ولكن تحت سقف «حكومة الاختصاصيين». غير انّ الملاحظ انّ كلّاً من باريس ولندن أرسلتا موفدين لهما الى لبنان في الآونة الاخيرة، في حين انّ الاميركيين لم يوفدوا خلافاً لعادتهم مساعد وزير الخارجية الاميركي ديفيد شينكر الذي تولّى في جانب من مهمته اللبنانية التي ورثها من خلفه ديفيد ساترفيلد، أمر التوسّط بين لبنان واسرائيل في ملف النفط والغاز وترسيم الحدود البرية والبحرية، وهو ما فَسّره المطلعون على الموقف الاميركي على أنه «نَفض يد أميركية من الشأن اللبناني وتركه للبريطانيين والفرنسيين».

ويبدو، حسب المطلعين على الموقف الاميركي، أنّ الحريري يتمسك بتأليف «حكومة الاختصاصيين» شرطاً لقبوله التكليف، مستنداً الى الموقفين الاميركي والاوروبي الدافعين في هذا الاتجاه. ويقول هؤلاء: «لأنّ الحريري بات يعتبر نفسه في موقع قوي نتيجة التمسّك الفرنسي ببقائه في رئاسة الحكومة بسبب مؤتمر «سيدر» او من دونه، فهذا الموقف الفرنسي الداعم له مشفوع أساساً بالتأييد، بل التوجيه الاميركي، ومعطوف عليه الدعم البريطاني. ولذلك كان الحريري يتمسّك ولا يزال بـ»حكومة الاختصاصيين» الانتقالية بحيث تتولى خلال 6 أشهر إجراء المعالجات المطلوبة للأزمة الاقتصادية والمالية، وإقرار قانون انتخابي جديد تمهيداً لإجراء انتخابات نيابية مبكرة على أساسه في ربيع 2020 ويعمل بنتيجتها على إعادة تكوين السلطة بعد الأخذ في الاعتبار الواقع الجديد ومطالب الحراك الشعبي الذي يُعبّر عن نقمة عارمة على الطبقة السياسية داخل السلطة وخارجها.

والاميركيون، على ما يقول المطلعون على موقفهم، «ليسوا «مُستقتلين» على لبنان على حد ما يروّج كثيرون من المؤيدين للسياسة الاميركية والمعارضين لها، ولا يراهنَن أحد أو يعوّل على تدخل خارجي ليس موجوداً ولن يحصل، لأنّ الأميركيين بعد كل ما جرى ويجري لم يعد لديهم عطف على لبنان، وحتى على المسيحيين المشرقيين بسبب التناقض القائم في الموقف بينهم وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وباتوا يعطفون فقط على الاكراد وعلى الازيديين وغيرهم من الاقليات في سوريا والعراق».

ولذلك، فإنّ الحريري سيظل متمسّكاً بـ»حكومة الاختصاصيين» لاعتقاده، بل لاقتناعه، بأنّ الآخرين ليسوا في وارد الذهاب الى خيار تأليف حكومة الاكثرية أو «حكومة اللون الواحد»، لأنّ من شأنها أن تعرّض مصالحهم ومشاريعهم السياسية للأخطار، لأنّ الخارج لن يقف مكتوفاً إزاءهم. واستناداً الى هذه المعطيات، فإنّ ما يطرحه الحريري من خيارات وأسماء لرئاسة الحكومة العتيدة لا يعدو كونه إمراراً لمرحلة، إعتقاداً منه أنّ الآخرين سيلبّون عاجلاً أم آجلاً رغبته في تأليف «حكومة الاختصاصيين» التي هو يعرف جيداً أنها تخالف روحية «اتفاق الطائف» الذي يؤكد تمسّكه به دوماً ويشدد على استكمال تطبيقه، ولكنه لا يرى ضيراً في الاصرار على أن يؤلف مثل هذه الحكومة الانتقالية القصيرة العمر (6 أشهر) طالما انّ الغاية هي حصراً «إنقاذ الوضع الاقتصادي والمالي من الانهيار، ووضع البلاد على سكة إنتاج سلطة جديدة من خلال انتخابات نيابية مبكرة».

كثيرون يعوّلون على تدخل خارجي في لحظة وصول الأزمة الى ذروتها، يقول هؤلاء السياسيون، ولكنّ هذا التدخّل لن يحصل أصلاً، لأنّ الاميركيين خرجوا من لبنان تاركينه لحلفائهم الاوروبيين وعلى رأسهم الفرنسيين.

ولذلك، فإنّ الحريري المُتكئ على هذا الدعم الاميركي ـ الاوروبي سيظل مصرّاً الى أجل غير مسمّى على حكومة الاختصاصيين او حكومة التكنوقراط، وفي يقينه أنها هي التي ستجلب المساعدات والدعم المالي والاقتصادي الدولي للبنان، وانّ المجتمع الدولي لن يترك لبنان نهباً للانهيار، وفي هذه الحال لن يستعجل الحريري الخطى او التفكير في تقديم تنازلات لـ»الفريق الآخر» عبر القبول بحكومة سياسية مطعّمة بتكنوقراط او العكس. في حين أنّ الفريق الآخر بدأ يتصرف وكأنه ليس مستعجلاً إنجاز الاستحقاق الحكومي مُراهناً على تراجع الحريري للقبول بـ»الحكومة التكنو- سياسية». وهي حكومة، يرى هذا الفريق، انّ الفرنسيين والبريطانيين ومن خلفهم الاميركيون سيقبلونها في لحظة شعورهم انّ حكومة الاختصاصيين الخالية من السياسيين، إلّا برئيسها زعيم تيار «المستقبل»، لا يمكن أن تبصر النور لاعتبارات «اتفاق الطائف» والتركيبة اللبنانية السياسية والطائفية، حتى ولو كانت موقتة وانتقالية. فالمهم هنا، بالنسبة الى هذا الفريق، هو عدم تكريس أي عرفٍ يصبح لاحقاً أقوى من النص، وهو يعتبر انّ «حكومة الاختصاصيين» ليست انقلاباً على «اتفاق الطائف»، بل هي انقلاب على نتائج الانتخابات النيابية التي جرت عام 2018، خصوصاً انّ هذا الانقلاب سيكرّس بمجرد أن يقرّ قانون انتخاب جديد، ويتقرر بموجبه تقصير ولاية مجلس النواب الحالي من أيار 2020 الى أيار 2022.

أكثر من ذلك إنّ الفريق الرافض «حكومة الاختصاصيين» يعتبر انّ الدول والجهات التي تقف خلف هذا الطرح تستبطِن، ليس فقط انتخاب مجلس نواب جديد، وإنما رئيساً جديداً للجمهورية أيضاً، إذ سيُعمل بعد الانتخابات النيابية المبكرة على طرح تعديل دستوري لتقصير ولاية رئيس الجمهورية وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

ولذلك، فإنّ هذا الفريق يتمسّك بالحكومة التكنو- سياسية برئاسة شخصية تكنو - سياسية نيابي في حال ظلّ الحريري على عزوفه، وهذه الحكومة تعالج الازمة الاقتصادية والمالية، وتقرّ قانون انتخاب وتشرف على انتخابات نيابية مبكرة (في أيار 2020) تنبثق منها حكومة جديدة، فيما الرئيس ميشال عون يكمل ولايته حتى نهايتها خريف 2022.