مع بدء انحسار أحدث موجة من المظاهرات تجتاح إيران، على الأقل في الوقت الراهن، تبدو النخبة الخمينية الحاكمة لا تزال عاجزة عن تحديد السبب وراء الانتفاضة، وكيفية التعامل مع تبعاتها.
من ناحيته، يعرض أحد الفصائل، بقيادة «المرشد الأعلى» علي خامنئي، تحليلاً معيارياً تحوّل بمرور الوقت إلى سمة مميزة للتوجه الذي ينتهجه النظام تجاه جميع الشؤون السياسية. قال خامنئي إن الانتفاضة جاءت نتاجاً لـ«مؤامرة أجنبية عميقة وواسعة النطاق وبالغة الخطورة»، ولا شيء سوى ذلك. علاوة على ذلك، يصر خامنئي على التعامل مع تبعات هذه الانتفاضة بأسلوب القبضة الحديدية.
واللافت أن الأمر بلغ حد مطالبة صحيفة «كيهان» اليومية، التي يسود الاعتقاد بأنها تعبر عن آراء خامنئي، بنصب المشانق من أجل شنق «مرتكبي الشر» في العلن، بغض النظر عن الأعداد.
وفيما يخص «الأعداء الأجانب» الذين يُفترض أنهم يقفون خلف هذه الانتفاضة التي هزت أرجاء 120 مدينة إيرانية، وحصدت أرواح 300 شخص على الأقل، دعا خامنئي إلى «رد انتقامي قوي». وترجم موقع وكالة «فارس» الإخبارية التابع لـ«الحرس الثوري»، هذه العبارة، إلى خطة للانتقام من عدد من الدول يجري النظر إليها باعتبارها أعداء للنظام الخميني.
وذكر مقال افتتاحي للوكالة أن «أعداءنا يعيشون في منازل زجاجية، وتقع أكثر أصولهم الاقتصادية والعسكرية حساسية في نطاق أسلحتنا. ومن خلال إنزال أضرار مالية وعسكرية ثقيلة بالعدو، يمكننا أن ندفعه إلى هوة اليأس، وإجباره على الركوع أمامنا».
وبذلك، يفترض المقال أن «الأعداء» المستهدفين لن ينتقموا، وسينتظرون ببساطة اللحظة المناسبة كي يركعوا.
إلا أن المتحدث الرسمي باسم «الحرس الثوري»، الجنرال رمضان شريف، تفاخر بأن «حُرّاس ثورتنا المقدسة» على استعداد لجميع النتائج «حتى آخر نقطة في دمائهم»، لكن المشكلة أنه لم يحدد دماء مَن تلك التي يتحدث عنها.
من جهته، هدد الرئيس حجة الإسلام حسن روحاني باتخاذ إجراءات لم يحددها ضد «أعداء أجانب» لم يسمّهم.
وقال: «إذا لم ننعم بالأمن، فلن ينعم أحد به».
وفي خطاب ألقاه أمام قيادات قوات «الباسيج»، أول من يوم (الأربعاء) الماضي، أشار خامنئي ضمنياً إلى الاستعداد لإقرار ما تشير إليه الدوائر السياسية في طهران، باعتباره «خيار شمشون». جدير بالذكر أنه، في يوم الجمعة الماضي، هدد عدد من الأئمة الذين تقدموا صلاة الجمعة عبر أرجاء البلاد بأن محاولات تدمير الجمهورية الإسلامية تعني الدمار للجميع.
من ناحية أخرى، من الصعب تحديد ما إذا كان «خيار شمشون» الذي سيطر على أذهان واضعي الآيديولوجيات داخل النظام الخميني في طهران، مستوحى على نحو مباشر من القصة التوراتية الواردة بالعهد القديم، أم النسخة السينمائية التي قدمها المخرج سيسيل بي ديميل، من بطولة فيكتور ماتير وهيدي لامار.

 


من جانبي، أميل إلى الخيار الأخير، خاصة أن خامنئي، الذي كان مراهقاً وقت إطلاق الفيلم في دور السينما، غالباً ما كشف عن ميله نحو القصص القديمة التي يُعاد سردها في أعمال أدبية جديدة. وبفضل هذا الميل، أصبح قارئاً شغوفاً لأعمال كتاب مثل ألكسندر دوما وميشال زيفاكو ورافاييل ساباتيني، وجميعهم أتقنوا فن كتابة حكايات مقتبسة من أحداث تاريخية أو توراتية قديمة.
في النسخة السينمائية التي قدمها ديميل، تأتي ذروة القصة بتدمير شمشون للمعبد، الذي تسبب الفلسطينيون في فقدانه بصره بعدما فقد قوته الخارقة، ما يعني أننا نتحدث هنا عن قصة انتقام خالص وبسيط. في المقابل، نجد أن النسخة التوراتية بها كثير من الطبقات الأخلاقية المتنوعة، وكذلك الرسائل الدينية بطبيعة الحال، التي تضع فعل تدمير المعبد في إطار مقدس. وفي هذا الإطار، فإن شمشون الذي يجول عبر أرجاء غزة فاقداً بصره، حقق انتقامه بالفعل، لكن فقط بعدما دفع ثمن انحرافه عن مشيئة السماء.

 


ويذكّرنا «خيار شمشون» الذي يطرحه خامنئي بهيرمان غورينغ، النبيل الألماني النازي، الذي كان يتفاخر بأنه أينما تواجهه مشكلة أخلاقية يعجز عن التفكير في حل لها، يمد يده نحو سلاحه.
إلا أن الحل الواحد لا يمكنه إرضاء الجميع طوال الوقت. وعليه، نجد أنه ليس الجميع يشاركون خامنئي رؤيته للأحداث والحل الذي يطرحه للتكيف مع تبعاته. وجاء الرفض الأوضح لـ«خيار شمشون» من جانب سعيد حداديان، أحد «المدّاحين» المفضلين لدى خامنئي. وقد انتهت قصيدة ألقاها أمام حشد مؤلف من بضعة آلاف كانوا يشاركون في مسيرة داعمة لخامنئي في طهران، الثلاثاء الماضي، بالسطور التالية:
«نحن متظاهرون، ولسنا جسوراً للأعداء، مشكلتنا مع غياب الكفاءة، والكارثة التي حلّت بسبب افتقارك إلى الكفاءة، لمرة واحدة اعترف، وقل إن الأمر كله خطؤك!»
أيضاً، امتلك وزير الداخلية رحماني فضلي الشجاعة لإبداء اختلافه في الرأي، وإن كان على نحو طفيف للغاية، عن الرؤية التي طرحها خامنئي.

 


وقال الوزير في خطاب ألقاه في طهران، الاثنين: «جزء فقط من مشكلاتنا يعود إلى تدخل أجنبي. أما معظم مشكلاتنا الاقتصادية والمرتبطة بمستويات المعيشة فترتبط بأوجه قصور هيكلية».
أيضاً، أظهر أحمد توكلي وزير التجارة السابق وأحد الشخصيات البارزة في «فدائيين إسلام»، اختلافه. وفي مقال له، أشار إلى أن محاولة النظام فرض زيادة بمقدار ثلاثة أضعاف على أسعار البترول كانت خاطئة من المنظورين السياسي والاقتصادي. وطرح قائمة من الإجراءات البديلة التي كان بمقدورها تحقيق كل الأهداف المفترضة لذلك القرار، من دون إثارة غضب الجماهير الأكثر فقراً، وإثارة حالة من التضخم الهائل.
وجاء تحليل نقدي آخر من جانب مسعود نيلي، الخبير الاقتصادي والمستشار السابق لروحاني، الذي تحسر على حقيقة أن الفريق المعاون لروحاني يفتقد الشجاعة التي تمكّنه من التصرف كحكومة بالمعنى الحقيقي، واختار بدلاً من ذلك فرض إجراءات لا تحظى بتأييد شعبي. ومن وجهة نظره، يرى نيلي أن استعادة السعر الحقيقي للمنافع والخدمات ينبغي أن تجري في إطار تحرير عام للاقتصاد، وليس كإجراء منفصل في إطار نظام مغلق تهيمن عليه احتكارات.

 


أيضاً، عرض أزاري جهرومي وزير الاتصالات والنجم الصاعد حديثاً في أوساط الجيل الجيد الذي أنشأه جهاز الأمن الإسلامي، الرؤية البديلة الخاصة به لـ«خيار شمشون». ويمكن أن يصف المرء هذه الرؤية بأنها «خيار سامسونغ»، بالنظر إلى أن جهرومي الذي شكّل العقل المدبر وراء قطع الإنترنت لأيام عدة، لكسر زخم الانتفاضة، لديه خطة لأن يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أمام الملايين من الإيرانيين الفقراء استخدام الهواتف الجوالة في الدخول إلى شبكة الإنترنت. بمعنى آخر، ينبغي التعامل مع «سامسونغ»، في رأيه، كسلاح يقتصر توفره على 30 في المائة فقط من الشعب الإيراني، الذين يقول روحاني إنهم «سعداء بالحياة الجيدة التي ينعمون بها».
ومن جديد، نعاين ازدواجية واقع الجمهورية الإسلامية؛ نظام لا يعي كيف يتصرف كآيديولوجية، وبالتالي يلجأ إلى «خيار شمشون»، وفي الوقت ذاته عاجز عن التصرف كحكومة طبيعية، مثلما يتجلى في «خيار سامسونغ».