الولايات المتحدة اختارت ملاعبة الفأر الإيراني، وجرَّه إلى ساحة حرب منهكة ومهلكة ولكن ببرود، وعلى نار هادئة، وبالنفس الطويل.
 

من الثوابت المسلم بها أن أميركا وإيران لا تستطيعان تحمل كلفة الخروج من العراق. فخروج النظام الإيراني منه يعني خروجه من سوريا ولبنان واليمن، بالتوالي، وهو ما يشعل حربا أهلية إيرانية داخلية قد تسقطه، لا محالة. لذلك فهو قد يفعل بالثورة التشرينية العراقية ما فعله بثورة جياعه مؤخرا، إذا وجد أن هذه الثورة توشك أن تُسقط نظام وكلائه، وتقطع حبل سرته المغذي، الذي أعانه على ويلاته الاقتصادية في الزمن الماضي الطويل.

وإذ كان يحاول، منذ الأول من تشرين الثاني وحتى الآن، تجنب إثارة الرأي العام الدولي، قدر المستطاع، والمراهنة على أن يتمكن جواسيسه وميليشياته من شرذمة الثورة، رويدا رويدا، بالاعتقالات والاغتيالات والاندساس بين الثوار، وبحرفهم عن سلميتهم المحرجة التي لا تسره، فإنه قد يفقد صبره في النهاية ويستخدم القوة غير عابئ باحتجاجات المجتمع الدولي، كعهده بذلك منذ أربعين عاما.

أما الولايات المتحدة فهي الأخرى، لن تترك العراق لا لإيران ولا لغيرها، مهما كان، ومهما سوف يكون، لإبقائه ضمن مناطق نفوذها، سواء بالملاطفة أو بالمشاكسة، أو بقوة المال والسلاح والمخابرات، وذلك لأن الموقع الجيوسياسي العراقي ضروري وملح لمصالحها في المنطقة، من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنها لا تستطيع أن تشطب من تاريخها السياسي والعسكري والاقتصادي ما أنفقته، من أجل امتلاكه، من دماء ومليارات وجهود مضنية، ليس بغزوها عام 2003 فقط، بل قبل ذلك بسنين.

فهي كانت موجودة فيه، ظاهرة أو متخفية، منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي. ثم اتخذ وجودها صيغته النهائية الثابتة في أواسط الستينات، حين أقدمت على ملءِ الفراغ الذي تركته بريطانيا العظمى بانسحابها من المنطقة.

أما وجودها العملي الفاعل في العراق فقد بدأ بشهادة علي صالح السعدي، أمين سر القطر لحزب البعث، بعد انقلاب عام 1963، والذي صرح بأننا “جئنا بقطار أميركي”.

ثم بسبب غزو صدام للكويت، والمشاركة الإيرانية الفاعلة في تسهيل مهمة القوات الأميركية في خوض حرب الخليج الثانية 1991، قررت “أميركا جورج بوش الأب” أن تحتضن المعارضة العراقية السابقة، حتى وهي تعلم بأنها، ظاهريا معارضة عراقية، وإيرانية خمينية سورية أسدية، في حقيقتها.

ثم زادت إدارة بيل كلنتون من إمساكها بـ”خوانيق” تلك المعارضة، وضاعفت من تنسيقها وتفاهمها مع النظام الإيراني بخصوص رسم صيغة عراق ما بعد صدام حسين.

ثم عادت أميركا جورج بوش الابن فأنهت اللعبة، وغزت العراق، وسلمت السلطة لوكلائها، مناصفة مع وكلاء الولي الفقيه. 

وعلى هذا ينبغي لثوار تشرين أن يُحسنوا تقدير المواقف الحقيقية على الأرض، سياسيا واقتصاديا، وأمنيا وعسكريا أيضا، وأن يدركوا أن خسارة أميركا للعراق تعني الكثير لهيبتها في العالم، وفي نظر مواطنها في الداخل، باعتبار أن خسارة العراق، بعد كل تلك التضحيات الباهظة، لا بد أن تحرج القدرات الانتخابية لكلا الحزبين الكبيرين.

كما تعني أيضا أن قوى دولية أخرى سوف تقفز وتأخذ مكانها في الوصاية والابتزاز والاستغلال.

ولعل أهم دوافع قلق واشنطن هو التواجد الروسي المحتمل في العراق، في ظل التنافس على النفوذ بين القوتين، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، والخليج العربي تحديدا.

وهنا نصل إلى سؤال يتكرر كثيرا حول سر البرود الأميركي المستغرَب في موقف إدارة ترامب من ثورة شباب تشرين العراقيين، ومن الانتفاضة التي عمت المدن الإيرانية، واكتفائها بالدعم الكلامي العابر غير الجدي لمطالب الشعبين العراقي والإيراني.

وللرد على ذلك، نقول إن الذي يعيش في الولايات المتحدة يعلم، أكثر من الذي يعيش خارجها، بأن المزاج العام للشعب الأميركي لم يعد حربيا كما كان. فهو في كل يوم يزداد قناعة بضرورة أن تتوقف حكومته عن خوض حروب جديدة في أي منطقة من العالم، إلا إذا تأكد أن هناك تهديدا جديا وحقيقيا للمصالح القومية الأميركية العليا.

وعلى هذا نجد ترامب، في العراق وإيران، يتحاشى الصدام الحقيقي مع النظام الإيراني، ومع ميليشياته، ويكتفي بسلاح العقوبات الذي بدا أنه يفعل فعله في إرباك النظام وإضعافه وإغراقه بمعارك متقطعة مع شعبه ومع طائفته في العراق ولبنان، وقد تعجل، بالتزامن مع مشكلاته الاقتصادية والسياسية والأمنية الداخلية، في سقوطه في النهاية.          

وإذا علمنا بأن القوة الحقيقية الفاعلة في أميركا هي للمصارف العظمى والشركات المئة الكبرى ولشبكات الإذاعة والتلفزيون والصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي ولوبيات الحكومات الخارجية الغنية والقوية والكثير من الشركات الأجنبية كذلك، فسوف ندرك أن أميركا، بكل قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وليس برئيسها وحده، قد اختارت ملاعبة الفأر الإيراني، وجرَّه إلى ساحة حرب منهكة ومهلكة ولكن ببرود، وعلى نار هادئة، وبالنفس الطويل.

إن المواجهة مع إيران هي واحدة من معارك الربح والخسارة التي يبرع فيها ترامب أكثر من سواه.

وعيب المرشد الأعلى الإيراني وكبار أعوانه ومستشاريه أنهم لا يقرأون هذه التقلبات والتبدلات والتحولات. فقد تملَّكَهم وهْمُ القوة وغرورُها، وأعمتهم عنصريتهم وطائفيتهم عن تلمس الصراط المستقيم.