دلّت أحداث الأيام الأخيرة على تطورين مهمين: الأول، سياسي مع انسداد كل مخارج الحلول للتكليف والتأليف. والثاني، شارعي مع فشل محاولات استخدام الشارع لفتح المخارج الحكومية.
 

يتعامل الثنائي، العهد و«حزب الله»، مع الرئيس سعد الحريري وكأنّ دوره يقتصر على توفير الغطاء السني لحكومة بشروطهما، وأي رفض يُعبّرعنه يواجه بالاستفزاز والابتزاز والتخوين وتحميله مسؤوليات لا يتحملها، فيما من حقه الطبيعي والبديهي أن يترأس أو يغطي الحكومة التي تتناسب ورؤيته للمصلحة الوطنية، وإذا لم تتقاطع رؤيته مع رؤية «الثنائي» ما على الأخير سوى أن يتدبّر أمره من دون الحريري.

فلماذا على الحريري مثلاً أن يغطي حكومة يدرك سلفاً أنها لن تحصل على ثقة الناس ولن تنجح في مواجهة الأزمة الاقتصادية، كما أنّ تغطيته لها تجعله شريكاً في الفشل، فيما لو كان مقتنعاً بحكومة من هذا النوع لكان ترأسها شخصياً؟ فمن حق الحريري أن يقبل أو أن يرفض، ومن حق الطرف الآخر أن يلجأ إلى خيارات بديلة، ولكن ليس من حقه أن يلزم الحريري بخيارات يرفضها، وإذا كان يتعذر عليه التكليف والتأليف من دون الحريري فهذه مشكلته وما عليه سوى أن يأخذ بوجهة نظر رئيس الحكومة المستقيل وليس الضغط عليه في السياسة والشارع في محاولة لإلزامه بخيارات يرفضها من منطلقات مالية-اقتصادية لا سياسية.

وبعد أن وصل تمادي «الثنائي» إلى حدود غير مقبولة، وكأنّ وظيفة الحريري تنفيذ أجندتهما وتسهيل مصلحتهما، قرر أن يضع حداً لـ«رقصة التانغو» في بيان مدروس قال في سطوره بصراحة تامة: لن أترأس حكومة مصيرها السقوط في الشارع والفشل الاقتصادي، ولن أغطي حكومة تفليسة أتحمّل مسؤولية تغطيتها. وبالتالي، ما عليكما سوى ان تتدبرا أمركما. وبعد أن حسم موقفه تجاههما تراجع فجأة التهويل في السياسة وعلى الأرض، لأنهما لا يملكان الخيارات البديلة من دون الحريري.

فلا التهويل السياسي فعل فعله، ولا التهويل بالشارع أيضاً، بل التهويل الأخير سرّع في بيان الحريري على غرار «غزوة الرينغ» الأولى التي سرّعت في استقالته، لأنّ ما لن يقتنع به «الثنائي» هو انّ تهويله كان يمكن أن يفعل فعله لو أنّ الأزمة من طبيعة سياسية على غرار حوادث 7 أيار واتفاق الدوحة، ولكن بما انّ الأزمة مالية صرف وتتصل بثقة الناس الثائرة في الشارع، فإنّ هذا التهويل أصبح خارج السياق وخارج الصرف، فضلاً عن انّ كل محاولات ضرب الثورة بتطييفها ومذهبتها وتسييسها وتحزيبها لم تنجح ولن تنجح لعدة أسباب، أهمها: لأنّ الناس تدرك جيداً انها بخروجها من الشارع تخسر فرصة التغيير التي اقتربت منها، ولأنها متيقّنة من انّ التغيير مع هذه الأكثرية غير ممكن، ولكونها فقدت كل شيء ولم يبقَ أمامها سوى البقاء في الشارع، ولأنّ الناس الثائرة في الشارع ترفض إعادتها الى زمن الحرب وتملك الوعي الكافي الذي يجعلها تتيقّن انّ كل محاولات التسييس هدفها ضرب ثورتها وديناميتها، ولأنّ النسبة الأكبر من الناس الثائرة هي من فئة الشباب التي تريد دولة على قدر آمالها وتطلعاتها بعيدة عن الإيديولوجيات العقيمة والأدبيات الخشبية والسياسات الفاشلة.

وإذا كان فشل استخدام شارع مقابل شارع يعود لوعي الناس ورفض الأحزاب السيادية الانجرار إليه، فإنّ «حزب الله» في المقابل لا يريد ان يذهب بعيداً في استخدام الشارع، وهذا ما يفسِّر عدم تبنّيه رسمياً، فإذا نجح في تحقيق أهدافه يكون قد نجح، وإذا لم ينجح يتراجع. لأنه بين حكومة تكنوقراط، وبين توتر مذهبي وطائفي وسياسي لا يعلم سقفه ولا حدوده في لحظة حصار مطبق على طهران وعقوبات مفروضة عليه وأزمة اقتصادية جعلت أولوية الناس معيشتها، يفضِّل بالتأكيد الذهاب إلى الخيار الأقل سوءاً، أي حكومة الاختصاصيين المستقلين، لأنّ الخيار الآخر يفتح الباب على الفوضى التي يمكن ان تخرج عن الضوابط المرسومة.

وفي سياق المقارنات نفسها أيضاً بين انهيار مالي واقتصادي وفوضى واضطرابات تفقد «حزب الله» السيطرة والمبادرة وتشكّل خطراً عليه ليس من الخارج فحسب، بل من داخل بيئته، وبين انفراج مالي واقتصادي يبعد الخطر عنه من الداخل والخارج طالما انّ المطروح هو حلول اقتصادية لا سياسية تتصل بسلاحه، فسيختار، في نهاية المطاف، حكماً الذهاب إلى حكومة تكنوقراط مستقلة عن القوى السياسية، والشخصيات الشيعية التي ستوزّر في حكومة من هذا النوع إذا لم تكن معه ومحسوبة عليه بشكل كامل فلن تكون ضده. وبالتالي، هناك عملية تضخيم غير واقعية لحكومة الاختصاصيين ورفض الحزب لها.

وبالعودة إلى روحية التفاهم بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر»، فإنّ المعادلة التي حكمت هذا التفاهم قائمة على الآتي: التيار يؤمّن الغطاء لسلاح الحزب ودوره، والحزب يؤمّن النفوذ للتيار والسلطة، وهذا ما يفسّر الحقائب المتواضعة والثانوية التي حصل عليها الحزب منذ عام 2005 في دليل واضح على انّ الهدف من مشاركته لا يتجاوز حدود الرمزي وتثبيت الوجود. وبالتالي، هذه الرمزية يمكن إيجاد المخرج المناسب لها، ولكن المشكلة هي في مكان آخر، أي لدى الطرف الذي ستفقده حكومة الاختصاصيين المستقلين السلطة والنفوذ وقدرته على التحكم بالوزارات واستطراداً الإدارات، لأنّ مشروعه سلطوي بامتياز، ودينامية حكومة الاختصاصيين لن تقف عند حدود انتزاع وزارات كانت بحوزته، بل ستمتد على مستوى كل الذهنية المتّبعة في إدارة الدولة، ولذلك المشكلة الأساس على هذا المستوى هي في بعبدا مع الوزير جبران باسيل لا في الضاحية.

والمقصود انّ خسارة الحزب هي خسارة معنوية بسبب مواقفه التي صوّرت حكومة الاختصاصيين بأنها جزء من مؤامرة ضده، فيما هي جزء من شروط المرحلة المالية والاقتصادية، وهو قادر على إعادة تبديد هذا الانطباع، بينما الخسارة العملية هي خسارة باسيل الذي سيفقد سيطرته على الحكومة ومفاصلها وكل ما يتصل بالبنية الإدارية للدولة، وخلاف ذلك يعني ان لا قيامة للبنان الذي لم يصل إلى ما وصل إليه سوى بفِعل سياسات المحاصصة والزبائنية، كما انّ الناس لن تخرج من الشارع سوى بعد أن تتثبّت من نجاحها في فرض قواعد الفصل بين العمل السياسي والتشريعي، وبين وضع حد نهائي لتحويل الدولة ومؤسساتها إلى إدارات حزبية وفئوية ونفعية ومصلحية.