إذا كان الموفد البريطاني ريتشارد مور حمل من «حزب الله» جواباً يُقنِع الأميركيين، فإنّ اللقاء الأميركي- الفرنسي- البريطاني المقرّر عقدُه في باريس، مطلع الشهر المقبل، سيكون حظُّه أفضل من حظ اللقاء الأول. وقد يُنتِج تسويةً مرحلية على الأقل، في انتظار إنضاج الحلّ النهائي.
 

حتى الآن، إيران تتصرَّف في لبنان كما تتصرَّف في العراق. أي هي تدافع عن نفوذها بوسيلتين: المناورة والمماطلة في السياسة، والإسكات بمزيج من الوعود والتهديدات وعمليات الاستيعاب.

طبعاً، إنّ خصوصية التنوُّع الطائفي والمذهبي في الشارع المنتفض، وموقع الجيش في اللعبة، يمنعان ايران من الذهاب بعيداً في استخدام القوة.

ولكن، يوحي المطلعون على حيثيات المقاربة الأميركية للحدث اللبناني أنّ واشنطن لن تمنح إيران فرصة جديدة لتكريس قبضتها. ولذلك، هي تبذل كل جهدٍ مع الفرنسيين، والأوروبيين عموماً، لتحقيق هذا الهدف من دون المسّ- إذا أمكن- بلبنان كدولة ومؤسسات أو كشعب.

لقد حذّر الأميركيون، خصوصاً في العامين الأخيرين، من اضطرارهم إلى استهداف لبنان، دولةً وشعباً، إذا لم يفكّ ارتباطه العضوي بنفوذ «حزب الله». ولم يتعاطَ حلفاء «الحزب» في السلطة مع هذا التحذير بشكل جدّي.

ولكن، على الأرجح، لم يعُد أصحاب القرار في الولايات المتحدة مستعدين للانتظار أكثر. وسَمِع بعض اللبنانيين الذين يتواصلون معهم في الفترة الأخيرة عبارة: «لقد طفح الكيل».

ويهتمّ العديد من المتابعين بأبعادِ هذه العبارة، ويسألون: «ما هو اتساع هذا «الكَيْل» الأميركي؟ وهل ما زال هناك مجال لتوسيعه من جهة، وتقليص طموحات إيران من جهة مقابلة، فيتمّ التفاهم على تسوية مرحلية جديدة يحتاج إليها الجميع؟

ويمكن طرح السؤال بصيغة أكثر جرأة: هل يمكن أن يذهب ذوو القرار في واشنطن، بتشدُّدهم مع «الحزب»- إذا تصلَّب- إلى حدّ المغامرة بتعريض استقرار لبنان للخطر، بدءاً بانهياره مالياً؟ أم إنّهم سيتوقفون عند حدود الحرص على لبنان، ومنعه من الانهيار، وفق النهج الذي يعتمده الفرنسيون؟

عن هذا السؤال يجيب مطلعون على الصورة في واشنطن، فيقولون: هناك وجهتا نظر في دوائر القرار الأميركي حول هذه النقطة. الأولى متشدِّدة إزاء «حزب الله»، لكنها تحاذر إيقاع لبنان في كارثة. والثانية تقول إنّ «الحزب» راهن دائماً على الحسّ الأميركي بالمسؤولية تجاه لبنان، واستغلَّه ليمضي في توسيع نفوذه. ولهذا السبب، سيطر «الحزب» على القرار اللبناني والمؤسسات.

وتالياً، وفق هذه النظرة، إذا كان «الحزب» يتصلَّب اليوم فلأنّه مطمئنٌ إلى أنّ القوى الدولية حريصة على استقرار لبنان. ولذلك، سيكون مطلوباً من واشنطن، مكرهةً وفي شكل اضطراري، أن تمضي في حربها على النفوذ الإيراني في لبنان حتى تحقيق الهدف، ولو تأذّى البلد بذلك.


وهذا الموقف يختصره أحد المطلعين بالقول: لا مناص من عملية جراحية، مع عِلمنا أنّ المريض قد يتعرّض للخطر. ولكن، الخطر قائمٌ أساساً بالمرض لا بالجراحة. والعرب كانوا يعتقدون دائماً أنّ آخر الدواء هو الكيّ.

ولكن، حتى اليوم، يتمتع الفرنسيون بهامش من التأثير في القرار المتعلق بلبنان. وهم الذين يدفعون بواشنطن إلى مزيد من الصبر والتريُّث.

وتتحدث مصادر ديبلوماسية غربية عن انطباع بالأسى حول مستقبل لبنان، فتقول: لا نفهم كيف أنّ بعض الدول بدأ يدرس جدياً التخطيط لإرسال مساعدات إنسانية (تشديد على هذه الكلمة) إلى لبنان، فيما هناك قوى لبنانية لا تزال تبحث عن جنس الملائكة!

وتستهجن المصادر كيف تغرق هذه القوى في نقاشات من نوع: هل الغرب متمسك بالرئيس سعد الحريري أو لا؟ وهل يعترض على تسمية هذه الشخصية لرئاسة الحكومة أو تلك؟ والحال هو أنّ الأسماء ليست هي الأهم للمجتمع الدولي، بل الدور الذي يجب ان تضطلع به الحكومة الجديدة.

والمفارقة هي أنّ القوى الدولية أظهرت دائماً حرصها على استقرار لبنان، لكن اللبنانيين أنفسهم ليسوا جديرين بصون هذا الاستقرار. وحتى فرنسا التي بذلت كل جهد لعقد مؤتمر «سيدر»، لم تستطع إقناعهم بالإصلاحات المطلوبة، ولم تتمكن من ثنيهم عن المناورات والمماحكات المستمرة منذ عام ونصف العام، ما أدّى إلى تعطيل بنود «سيدر» وحجب11 مليار دولار مقرّرة.

وحول سلاح «حزب الله» وحضوره في لبنان، تؤكّد المصادر أنّ الجميع مدعوٌّون إلى التراجع قليلاً والتواضع وتجنيب لبنان الإنخراط في المحاور. فهناك ارتباط وجودي بين «الحزب» وإيران. هذا مفهوم. لكن لبنان ليس «حزب الله» وحده.

لذلك، على أي مسؤول أن يحافظ على التوازنات التي تحمي لبنان، وأن يحترم مبدأ النأي بالنفس عن أحداث الأقليم الكبرى، وخفض التدخّلات في شؤون الدول المجاورة والمحيطة.

وعلى الهامش، تطرح المصادر أسئلة عن سبب انكفاء السفارة اللبنانية في واشنطن، خلال هذه الظروف الدقيقة، على رغم اعتراف الجميع بأنّ السفير يتعرّض لمقاطعة الكثيرين. وتردّد أنّ الرسالة التي وقّعها أعضاء كثُر من الكونغرس حول لبنان لم تكن السفارة في جوِّها، فيما الحدث اللبناني يقتضي استنفاراً أعلى من جانبها.

ويستنتج المطلعون: لا يريد أحد سقوط لبنان. لكن أحداً ليس مضطراً إلى بذل مجهود يفوق ما يفعله اللبنانيون أنفسهم. ولا ينفي هؤلاء المطلعون أنّ في العديد من الأوساط الدولية نظرةً دونيةً إلى الطبقة السياسية التي تتحكّم بشؤون لبنان حالياً ومنذ سنوات.

وتنتهي المصادر إلى خلاصة: فلتؤلَّف حكومةٌ قادرة، اليوم قبل الغد. ولتتمّ حماية مؤسسة الجيش اللبناني. فهذه هي الأولويات... حتى لا نغرق في الثرثرة!