يقول البعض انّ الولايات المتحدة الأميركية تريد من خلال الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية التي كانت الدافع إلى الحراك الشعبي الجاري في الشارع، «إمّا الإمساك بالقرار اللبناني وإمّا الفوضى»، وذلك على طريقة معادلة «إمّا مخايل الضاهر وإمّا الفوضى» التي أطلقتها عام 1988 قبيل انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، ولكنّها لم تنجح في تحقيقها.
 

طبعاً المؤيدون للسياسة الأميركية في لبنان ينفون وجود توجّه أميركي من هذا النوع، ويقولون «انّ الإدارة الأميركية لا تريد للبنان الدخول في أيّ فوضى وأنّها أتاحت للفرنسيين ومعهم البريطانيين والألمان التحرّك لإيجاد حلّ يجنّب لبنان هذه الفوضى، ولكنّها لا تعرف ما اذا كان الأوروبيون سيكونون قادرين على تنفيذ هذه المهمة».

ويسوّق هؤلاء «أنّ واشنطن ترى أنّ حزب الله وحلفاءه يريدون الإمساك بلبنان ويجب التصدي لهم ومنعهم من ذلك»، كذلك ترى واشنطن، حسب المؤيدين لسياستها انّه «بعد ثلاث سنوات من عهد الرئيس ميشال عون الذي يدعمه «الحزب» وصل لبنان الى شفير الانهيار وباتت صورته سوداء أمام العالم وهو يشهد إفلاساً على كلّ المستويات سيجعل مصيره كالأرجنتين التي ظلّت مفلسة 14 عاماً الى أن خرجت من الأزمة».

لكنّ الفوضى المتنقلة بين بيروت والمناطق والحاصلة على هامش الحراك الشعبي ما تزال تحت السيطرة حتى الآن، يقول معنيون، وكأنّ محركيها يحاولون من خلالها اختبار الساحات لجهة إمكانية اختراقها، وبالتالي إدخال لبنان كلّه في فوضى عارمة يغذيها انهيار اقتصادي ومالي يخشى اللبنانيون من أن يؤدي الى وضع بلدهم لاحقاً تحت وصاية المؤسسات المالية الدولية من بنك وصندوق نقد دوليين وغيرهما.

لكنّ التطورات التي شهدتها الأيام الاخيرة دلّت الى أنّ ما خطّط له الأميركيون ليس سهل التنفيذ، وأنّ ما يريدونه للبنان، وفي لبنان، لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بالشراكة، أو على الأقل بالتفاهم والتسويات، مع اللاعبين الدوليين والإقليميين الكبار، وفي مقدمهم روسيا والصين.

فالروس، على حدّ ما يقول ديبلوماسيون عاملون في بيروت، باتوا غير قابلين باستمرار الأميركيين في «التفرّد» بلبنان، ويؤكدون أنّ هذا الأمر لم يعد في إمكانهم السكوت عنه. كذلك يرفض الروس «استحواذ» الأميركيين على ورقتي النفط والغاز اللبنانيين سواء في البر أو البحر.

وحسب هؤلاء الديبلوماسيين أيضاً، فإنّ روسيا لم تعد تقبل بأن يستخدم الأميركيون لبنان «منصّة» لإدارة مصالحهم من خلالها في المنطقة، فما كان في لبنان قبل الزلازل التي أحدثها «الربيع العربي» في المشرق والمغرب العربيين لن يكون كما بعده، لأنّ هذا اللبنان بتكوينه الطائفي والمذهبي والسياسي والحضاري لا يزهر فيه إلّا ربيع التنوّع الحضاري والحوار بين الديانات والثقافات، بينما «الربيع العربي» الذي بدأ بمطالب شعبية محقة، أزهر لاحقاً وبالاً على الدول العربية التي «تفتّح» فيها.


وفي ضوء هذه المعطيات، يقول سياسيون، انّ الأوضاع قد تتجه في حال حصول توافق على إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري، لتأليف حكومة تكنوسياسية لا تكنوقراطية، حيث أعلن في بيانه الأخير أنّه قبل بها متخلّياً عن حكومة الاختصاصيين الخالية من السياسيين.

أمّا في حال عدم التوافق مع الحريري، يقول هؤلاء السياسيون، فسيبدأ العمل على تأليف «حكومة مواجهة»، أو حكومة أكثرية، تواجه المشروع الأميركي الذي ثبت واقعياً حتى الآن أنّه متعذّر التطبيق، أولاً لأنّ «الحراك الشعبي» لم يكن مطواعاً معه، بمعنى أنّ الأميركيين لم يتمكنوا من ركوب موجة هذا الحراك مثلما ركبوا وحلفاءهم موجة «الربيع العربي» في هذه الدولة العربية أو تلك، وثانياً، لأنّ بعض العواصم الدولية الكبرى أبلغت الى واشنطن في مكان ما أنّها لم تعد طليقة اليد للتصرف بلبنان مثلما تريد في الوقت الذي تنسحب فيه من جبهاتها في المنطقة تاركة حلفاءها لمصيرهم.

ويقول هؤلاء السياسيون، وبينهم معنيون مباشرة بالاستحقاق الحكومي تكليفاً وتأليفاً، أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي ومعهما القوى السياسية من «التيّار الوطنيّ الحرّ» الى حركة «أمل» و«حزب الله» وبقية القوى والأحزاب الحليفة، لم يفقدوا الأمل من قبول الحريري إعادة تكليفه، لأنّهم يدركون أنّ بيئته السياسية وطائفته بغالبية قواها السياسية ومرجعياتها الدينية تؤيد بقاءه في السلطة، ويعتبرون أنّ هذا الدعم كافٍ له ليبقى في رئاسة الحكومة، خصوصاً في هذه المرحلة الصعبة أو الخطرة التي تمرّ بها البلاد، والتي سيسجل التاريخ أسماء من يخلّص لبنان منها ويكرّسهم رجالاً تاريخيين في الحياة السياسية، علماً أنّ الحريري في بيان عزوفه عن قبول التكليف لم يقفل باب العودة عنه، على رغم من أنّه أنهاه بعبارات تنمّ عن رغبة ضمنية لديه بترشيح امرأة لرئاسة الحكومة الجديدة.

ولذلك، تريث المعنيون بالاستحقاق الحكومي وغير المعنيين في إطلاق أيّ ردّة فعل سلبية أم إيجابية رداً على مواقف الحريري التي انتابها بعض السلبية، لأنّهم وجدوها مغلفة بنوع من العتب والتعبير عن مظلومية تحوق به من خلال توصيفه طريقة الردّ على ما طرحه في الغرف المغلقة مع مفاوضيه («الخليلين» وغيرهما)، فبعد أن وزّع المعنيون معلومات عاجلة عن أنّ الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة الجديدة ستجري اليوم، سارعوا لاحقاً الى سحبها والحديث عن مواعيد مبهمة بذريعة وجود نواب في الخارج يدرك الجميع أنّها ذريعة لا يعتدّ بها لأنّ الكتل النيابية هي التي ستسمي الرئيس المكلّف وانّ النواب المستقلين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين، ويمكن أن يحضروا سريعاً وإن كانوا في الخارج، علماً أنّ حضورهم قد لا يغيّر في نتيجة الاستشارات المتّفق على نتيجتها مسبقاً.

إلّا أنّ خيار «حكومة المواجهة» يقول معنيون، هو في الحسبان في حال ظلّ الحريري عازفاً عن تولّي رئاسة الحكومة ولم يسمِّ شخصية أخرى خلفاً له تلبية لرغبة عون وبرّي وبقية القوى المؤيدة بقاءه في سدّة الرئاسة الثالثة، إذ في هذه الحال سيكون هؤلاء في حلّ من أيّ التزام تجاهه، ويؤلفون حكومة تكنوسياسية يفتحون باب المشاركة فيها أمام الجميع ولا يُستثنى منها إلّا من يستثني نفسه. ولكن البعض يطرح أن تكون الحكومة «حكومة أكثرية» لأنّهم يعتبرون أنّ «حكومات الوفاق الوطني» أو «حكومات التسويات» أثبتت بالتجربة أنّها لا تُنجِز، وأنّ حكومات الأكثرية هي التي يمكنها الإنجاز، لأنّ هذه الأكثرية تحرص في العادة على عدم الفشل لئلّا يرتدّ عليها سلباً في السياسة وكلّ شيء.

في أيّ حال، يقول المعنيون أنّ الأمل من عودة الحريري عن عزوفه لم يُفتقد بعد، وإنّ الأيام المتبقية من الأسبوع ستكون كافية للحسم في هذا الخيار، فإذا جاء سلبيّاً، يفترض أن تنطلق البلاد الى مشاورات تكليف فتأليف الأسبوع المقبل، أو تمضي البلاد الى مزيد من التأزّم تحت جنح حكومة تصريف الأعمال، وحراك شعبي ربما يشهد فصولاً جديدة من التصعيد الى أن يقضي الله أمراً كان مغفولاً...