بعد مرور أربعين يوماً على الحراك الشعبي في لبنان، بدأت ترتسم خريطة أخطر أزمة سياسية - اقتصادية تشهدها البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية. يوماً بعد يوم، تتقدم أدوار وتتراجع أخرى، ضمن تحوّلات سريعة، تجعل العنوان الاقتصادي - الاجتماعي الذي لم يعلُ فوقه صوت خلال الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية، يصبح هامشياً لمصلحة الاشتباك السياسي بأبعاده التقليدية والمحدثة.
 

اذا ما أراد المرء أن يشرّح الوضع الحالي بعيداً عن أيّ انحياز لطرف دون آخر، لأمكَنه رصد التحوّل الذي شهده الحراك الشعبي، وفق خط زمني بمحطتين، الأولى بدأت في 17 تشرين الأول وانتهت في اليوم الذي أعلن فيه سعد الحريري استقالة الحكومة، وفيها كان الشارع يتحرك بمطالب اقتصادية اجتماعية حصراً. والثانية بدأت بعد استقالة الحريري، ولا تزال مستمرة حتى الآن، وفيها صار الشارع منقسماً ليس بين «ثوار» و«زعران»، وفق المصطلحات المحدثة، وإنما عملياً بين منتفضين على السلطة، وقد باتوا أقلية، وبين جمهور السلطة نفسها، بكل تناقضات شركائها وصراعاتهم وأجنداتهم.

هذا ما كشفته، على سبيل المثال، أحداث جسر «الرينغ» التي فضحت المستور، والكثير من «المسكوت» عنه، أو على الأقل ما تسعى الوسائل الإعلامية إلى تجميله بمساحيق سرعان ما ستسيلها حالة الانفلات الخطيرة التي بدأ يشهدها الشارع، تماماً كما «تُساح» مساحيق التجميل عن وجه امرأة قبيحة.

لا يمكن إنكار الواقع. اليوم، صارت الساحات خالية من المطالب الاجتماعية - بنسبة كبيرة - وأوامر العمليات في الشارع، وأخطرها قطع الطرق، بدأت تصدر من مكاتب أحزاب القوى التي ركبت موجة الحراك الشعبي، وما يقابلها من استعراضات للقوة، وفق منطق شارع في مواجهة شارع.

بذلك، فإنّ أحداث «الرينغ» أو قصقص أو الكولا، لم تعد حراكاً شعبياً بقدر ما صارت صورة مصغّرة عن أحداث كثيرة شهدتها البلاد في خضم الاشتباكات والازمات السياسية المتلاحقة. ربما تقترب من حيث الشكل (وليس الحجم) من أحداث الجامعة العربية قبل سنوات مثلاً، وربما تصل إلى ما هو أخطر، في ظل الشحن السياسي المستمر، والذي جعل البعض يقيم جدراناً في نفق نهر الكلب، والبعض الآخر يردّد شعار «الشعب يريد 7 أيار جديداً»!

لم يكن ينقص هذا المشهد سوى ذهاب الصراع القائم حالياً نحو التدويل، الذي يطل برأسه من عواصم القرار: في واشنطن، كشف جيفري فيلتمان عن المستور في المقاربة الأميركية للوضع اللبناني. في باريس، حضر لبنان، ولو هامشياً مقارنة بإيران، على مائدة مساعدي وزراء الخارجية الفرنسي والبريطاني والأميركي. وفي موسكو، حذّر من المشاريع الغربية للبنان، ومبادرة جنينية غير معلنة لاحتواء ما يمكن احتواؤه، بعدما بات اللعب على المكشوف.

بعيداً عن نظرية المؤامرة، التي يمتطيها البعض لتسطيح الوضع القائم، عبر القول إنّ الغضب الشعبي تفجّر بكبسة زر أميركية، فإنّ من السذاجة توقع غياب أي دور خارجي في ما يجري. فالتحركات الجارية على أكثر من خط دولي، سواء خلال الأزمة الحالية، أو قبل تفجّرها، تَشي بالكثير، خصوصاً أنّ لبنان قد دخل فعلاً في دائرة الصراعات الدولية منذ اللحظة الاولى لدخول لبنان نادي النفط والغاز.

ليست مصادفة أن تتخذ العقوبات الاميركية على «حزب الله» والقطاع المصرفي اللبناني مساراً تصاعدياً في خضم الاندفاعة اللبنانية نحو تلزيم البلوكات النفطية لشركتين أوروبيتين وشركة روسية... وليست مصادفة كذلك أن تشتد هذه العقوبات منذ اللحظة التي فشلت فيها الوساطة الاميركية في ترسيم الحدود البحرية وفق الشروط الاسرائيلية، وبموازاة التسخين الميداني المتمثّل في التهديدات الاسرائيلية المتصلة بـ»الصواريخ الدقيقة» وتَتماتها (عدوان المسيّرتين في الضاحية الجنوبية).

منذ فترة، بدأت تتضح أدوات الحرب الاميركية خارج الاطار التقليدي (الحرب المباشرة). لقد جرّب الاميركيون هذه الادوات في مناطق عدة في العالم، ابتداءً من الثورات الملوّنة في جمهوريات الفلك السوفياتي السابق، وصولاً إلى اميركا اللاتينية. واليوم، تستعاد هذه الادوات بشكل عابر للحدود من لبنان والعراق وصولاً إلى ايران، مشفوعة بسلاح العقوبات الذي صار سيفاً مصلتاً على كل دول العالم، بما في ذلك دول كبرى مثل روسيا والصين، وهو بالنسبة إلى الادارة الأميركية البديل الاقل كلفة (بشرياً واقتصادياً) من الحروب المباشرة.

في لبنان، كانت المؤشرات على ذلك واضحة، وقد أمكن رصدها يوم زار مايك بومبيو وزير الخارجية الاميركي بيروت في آذار الماضي، حينما وضع اللبنانيين أمام خيار من اثنين: إما مواجهة «حزب الله»، أو دفع الثمن. وهو المنطق ذاته الذي يشكل اليوم جوهر المقاربة الاميركية للأزمة اللبنانية الحالية، والتي عكسها فيلتمان في مداخلته أمام الكونغرس، وتحديداً في التشديد على أن ما يجري اليوم في لبنان «مرتبط بالمصالح الاميركية»، او بمعنى آخر يخدم تلك المصالح.

بهذا المعنى، يمكن ترجمة الموقف الاميركي بشكل عملي أكثر وضوحاً في الواقع الحالي: إمّا حكومة متحررة من «حزب الله»، وإمّا الفوضى، سواء كانت فوضى الشارع أم فوضى الاقتصاد، أم كلاهما معاً. ولعل هذا ما يفسر إصرار الفريق المتمثل بالثلاثي سعد الحريري - سمير جعجع - وليد جنبلاط على حكومة التكنوقراط، في مقابل إصرار الفريق المقابل على الحكومة التكنو- سياسية التي من شأنها أن تعيد ترميم الشراكة السابقة بما يحصّن «حزب الله» بشكل خاص من توجهات معادية.

أمام هذا التوجه الاميركي يمكن فهم طبيعة التحرك الدولي المقابل، خصوصاً التحركين الفرنسي والروسي تجاه الازمة القائمة. وبالرغم من أن هذين التحركين قد لا يكونان على نحو منسّق، إلا أنهما يسيران بشكل متوازٍ، بالنظر إلى أنّ ثمة مصلحة مشتركة لدى باريس وموسكو في منع جنوح الاوضاع الحالية في لبنان إلى نقطة اللاعودة، وهي تتمثل في تقاطعات في ملف النفط والغاز، وربما تقاطعات جيوسياسية أخرى.

وبالنسبة إلى الفرنسيين، وإلى حدّ ما البريطانيين، فإنّ مقاربة الوضع اللبناني هي جزء من مقاربة أشمل للوضع الاقليمي. ومع أن لبنان لم يحتلّ الحيّز الأكبر من الاجتماع الباريسي الأخير، بحسب ما رشح من تسريبات، إلّا أنّ استقراره يبقى حجر أساس في اية تسويات أخرى يسعى اليها الاوروبيون في الشرق الاوسط، وبشكل خاص ما يتصل منها بالملف النووي الايراني، وسط ما يتردد عن مساع أوروبية لإعادة إحياء جهود التقريب بين ايران وإدارة دونالد ترامب بناء على مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون.

امّا بالنسبة إلى الروس، فيبدو الأمر أكثر خطورة، فما يجري يندرج في إطار الفوضى المنظمة التي للولايات المتحدة باع طويل في تذكيتها. ولعلّ روسيا كانت أوّل من قرأ المشهد الحالي بوضوح، بل استشرفت سيناريوهاته، منذ أن حذّر سفيرها في لبنان (قبل بدء الحراك الشعبي) من سعي الاميركيين لنشر الفوضى في لبنان من خلال حرب الدولار.

لذلك، فإنّ التحرك الروسي، وبرغم كل التشويش الدائر حوله من قبل البعض، ينطلق من قراءة الوضع القائم ضمن مشهد شامل، يتقاطع مع المقاربة الاوروبية. وهو يحاول، شأن الفرنسيين، التوصل إلى تسوية حكومية تمنع انزلاق لبنان إلى الهاوية، أخذاً بالحسبان المتغيرات التي أفرزتها الازمة الحالية، واتجاه الاميركيين إلى الذهاب في الازمة نحو السنياريوهات الاكثر تطرفاً.