ليست المرّة الأولى في تاريخ لبنان الحديث التي يبقى فيها المكوّن الشيعي خارج إطار الانتفاضات اللبنانية شبه الشاملة، سوى تلك التي تعنيه مباشرة أو تعني محور الممانعة، وهو ما برّر بقاءه خارج ثورة 2005 لأسباب إقليمية ودولية. لكنّ غياب هذا المكوّن عن الانتفاضة الأخيرة لا يبرَّر طالما أنّها ضدّ الجوع والفساد، والأخطر أنّه وضع نفسه في المواجهة. فما يعني ذلك؟ وهل من أفق لهذه المعادلة؟
 

لا تبدو الإشارة الى غياب المكون الشيعي عن أيّ حراك شعبي اكتشافاً مذهلاً، فهو من البديهيات التي عايشها اللبنانيون في العقود الأخيرة، خصوصاً في المرحلة التي تلت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ففي الوقت الذي نزل فيه اللبنانيون من مختلف الطوائف والمذاهب الى الشوارع حاذر الشيعة مجاراتهم. فقد كان الاتهام موجّهاً يومها مباشرة الى النظام السوري شريك «الحزب» في محور الممانعة. ولم يكتفِ المكوّن الشيعي بموقف المعترض، بل انتقل الى المواجهة مع الشارع بمكوّناته المسيحية والإسلامية السنية والدرزية الى أن بلغت الذروة ولأسباب مختلفة في «عملية 7 أيار» 2008، والتي تمّ تبريرها بما حدث في 5 منه عندما قاربت الحكومة ملف شبكة الاتّصالات الخاصة بالمقاومة.

ولهذه المعطيات مجتمعة، لم يتغيّر أسلوب تعامل المكوّن الشيعي مع باقي المكونات السياسية والطائفية على خلفية ما يمتلكه «الحزب» من سلاح رغم الحرص المعلن عن عدم استخدامه في الداخل بعد تلك التجربة التي شهدها لبنان على أرض الجنوب من أحداث انتهت في 25 أيّار 2000 بانسحاب الجيش الإسرائيلي من طرف واحد فعدّ «انتصاراً إلهيّاً» له دون غيره رغم مشاركة الجيش ومعظم اللبنانيين في صنعه. وزاد الطين بلّة أنّ تعاظم دور «الحزب» الإقليمي في أعقاب الأزمة السورية وما تلاها من أحداث امتدّت طيلة السنوات الثماني الماضية تزامناً مع توسع أدواره الإقليمية الى أن بلغ الساحات السعودية والبحرينية واليمنية منذ عامين ونصف العام تقريباً.

لم تكن كلّ تلك الوقائع دافعاً كافياً للحديث عن أسباب ودوافع بقاء الثنائي الشيعي خارج المنظومة اللبنانية المتحركة، وتحديداً تلك التي تتجلّى في الشارع في محطّات معيّنة. فبقي خارج أيّ حراك شعبي متنوع الألوان الطائفية والمذهبية الى أن اندلعت الانتفاضة الأخيرة في 17 تشرين الأول الماضي بكلّ ما تسبّب بها ودفع إليها من وضع اقتصاديّ ونقديّ وماليّ واجتماعيّ لم تعشه البلاد من قبل. ولعلّ أخطرها ما تسبّب به وجود دولارين في السوق واحد مربوط بالسعر الرسمي الذي يتحكم به مصرف لبنان وهو نادر الوجود، وآخر متحرّر من أيّ ضوابط يتلاعب به رواد السوق السوداء على كثرتهم من لبنانيين ونازحين ومعهم الصيارفة.

وإن توقفَ المراقبون الديبلوماسيون والسياسيون امام ما تسببت به هذه الانتفاضة ظنّ كثيرون منهم انّها انتفاضة لبنانية عارمة وشاملة يشارك فيها اللبنانيون جميعاً من مختلف طوائفهم ومذاهبهم بمن فيهم شيعة لبنان للمرة الأولى في التاريخ الحديث. ولذلك قالت كلّ التوقعات انّها انتفاضة ستعطي نتائجها في أقرب وقت في ظلّ المشاركة اللبنانية العارمة، خصوصاً عندما انضمّت اليها ساحات جنوبية محسوبة على الثنائي الشيعي من صور والعباسية الى النبطية وكفررمان دون تجاهل ما جرى في البقاع الشمالي ما بين قرى ومدن بعلبك والهرمل بعد زحلة والبقاع الأوسط، إضافة الى جبل لبنان والشمال بعد بيروت.


عند هذه المرحلة لم يتردّد أحد في الاعتقاد انّ ما يجري ثورة لبنانية حقيقية بكامل مكونات الوطن الى أن بدأت بوادر المواجهة بين الحراك وجزء من السلطة بعد استقالة الحكومة التي كانت من أولى مطالبها. ولما لم يقف الى جانب السلطة سوى المكون الشيعي بدأت المواجهة تأخذ منحى آخر، وتوسعت رقعة الشكوك المحيطة بها. فعلى وقع بعض الاتهامات التي أطلقها المنتفضون في صور ضدّ بعض الرموز الشيعية والتي لقيت صدى فورياً في خليط ساحتي الشهداء ورياض الصلح حتى بدأ المشهد يتغير شيئاً فشيئاً.

وبعد خطابين للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ودعوته المناصرين الى إخلاء الساحات، بدأت بوادر ظهور شارع مقابل شارع، وتجلّى ذلك بالغزوة التي استهدفت الساحتين في وسط بيروت قبل أسبوعين، وزاد من خطورتها أن وجهت الاتهامات الى خيرة شباب لبنان المنتفض وسيقت بحقهم كلذ أشكال الموبقات الأخلاقية والإنسانية والأمنية دون أيّ إثبات فانقسم اللبنانيون، مجدداً بين فريقين واصطفّ الثنائي الشيعي واحداً موحداً في وجه الانتفاضة الى جانب حلفائه في كلّ ما سيتّصل بالانتفاضة والأزمة الحكومية الى أن تعقدت الأمور بالشكل الذي بلغته أخيراً تزامناً مع تنصّل قيادتي الثنائية وعلى كلّ المستويات من «غزوات» ركاب الدراجات النارية رغم نداءاتهم المذهبية ورفع أعلامهم الخضراء والصفراء. وكل ذلك يجري على خلفية الاعتقاد انّ كلّ ما يجري لا يستهدف سوى الشيعة في لبنان. فاستهداف جلسة مجلس النواب لا تعني سوى رئيس المجلس الشيعي دون غيره من التركيبة والكتل النيابية، كما سلاح المقاومة رغم ندرة الحديث عنه دون غيره من المطالب المعيشية والاجتماعية على وقع مؤامرة كونية تقودها الولايات المتحدة الأميركية فبات ملفا الانتفاضة والحكومة على لائحة الحرب المعلنة التي تدور رحاها بين محور الممانعة وخصومه دون ايّ اعتبار لكلّ الأسباب الأخرى.

قد لا يتّسع المقال للكثير مما يمكن قوله، لكن بعض العارفين بالكثير من التفاصيل يخشون على الانتفاضة والحكم معاً طالما انّ كلّ ما يجري لا يعني رئاسة الجمهورية ولا رئاسة الحكومة ولا أنصار العهد، فالمستهدف واحد يختصره الثنائي الشيعي بشخصه المعنوي والسياسي والحزبي وسلاحه وما عدا ذلك لا معنى ولا طعم لكلّ ما يجري.

وفي الختام، لا بدّ من الإشارة الى أنّ خروج المكون الشيعي من ساحة الانتفاضة وانتقاله الى المواجهة العلنية عبر الغزوات التي ربما تحوّلت يومية في ساحتي وسط بيروت او في ايّ مكان آخر محتمل على طريقي الجنوب او البقاع لن يعطيها مداها الذي تستحقه باعتراف الأقربين والأبعدين. فالقوة المفرطة التي يتمتع بها هذا الثنائي لن تسمح لا بحلّ حكومي ولا بحلّ سياسي، فحلفاؤهما بمن فيهم سيد العهد عاجزون عن التفاوض مع أيّ مكوّن آخر. ولذلك فإنّ أيّ نظرية أخرى خارج هذه المعادلة تحتاج الى ما يبرّرها، فكلّ الشروط متوافرة لتعزيزها ومن أراد أن يتجاهل هذا الواقع لن يستطيع تقديم العكس الى اليوم.