يحلو لأحد المسؤولين الاوروبيين في الاتحاد الاوروبي استذكار ما حصل مع الرئيس الفرنسي التاريخي شارل ديغول، عندما هبّت الثورة ضده عام 1968. يومها حصل تحرك جارف لطلاب فرنسا، وانضمّ اليه أبرز المثقفين والفنانين ضد سلطة شارل ديغول. وكان العصب المحرّك لهذه التظاهرات الاشتراكيون والشيوعيون، وساهم فيها من خلف الكواليس الاميركيون الحانقون على ديغول بعدما قرر الخروج من حلف شمال الأطلسي.
 

يومها استقلّ ديغول طائرته وسافر بشكل سري ومن دون أن يُعلم أحداً الى المانيا، وتحديداً الى «بادن بادن: حيث مركز قيادة القوات الفرنسية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهناك اجتمع مع قائد فرقة المظليين الجنرال جاك ماسو الذي كانت تجمعه به علاقة صداقة، بهدف التأكد من ولاء الجيش له خشية محاولته الوقوف في صف المتظاهرين.

لكنّ الزيارة التي كان من المفترض ان تكون سرية جرى تسريبها مع إرفاقها بشائعات غير صحيحة حول احتمال تدخل الجيش لضرب المتظاهرين.

طبعاً كان قصر الرئاسة الفرنسية وراء تسريب هذه الشائعات. وفي مذكراته نفى الجنرال ماسو أنه كان بوارد زَج قوات المظليين ضد المتظاهرين.

من بعدها خفّ زَخم المتظاهرين في مقابل إعلان ديغول حل الجمعية الوطنية والدعوة الى انتخابات جديدة خرج منها الديغوليون أكثر قوة، لكنها أسست فعلياً لنهاية ديغول السياسية بعد حوالى السنة.

وأنهى المسؤول الاوروبي عرضه قائلاً بالفرنسية «Le Mystere fait le prestige» أي «الغموض يصنع الهيبة».

ربما هذا بالضبط ما افتقدته السلطة اللبنانية في إطار كيفية تعاملها مع الحراك الشعبي الذي احتل الساحات والشوارع ولا يزال، داعياً الى حكومة جديدة بكامل المقاييس.

فالسلطة اللبنانية أكثرت من كلامها وخطاباتها التي بدت تكراراً منقّحاً لخطابات ما قبل 17 تشرين الاول تاريخ اندلاع الاحتجاجات الشعبية. خطابات تكثر فيها الوعود، ولكن من دون مضمون تنفيذي، وحتى لو أجريت خطوة تنفيذية ما فهي بَدت أقرب الى خطوة مسرحية منها الى خطوة جدية. بينما حافظ «حزب الله» على غموضه، ما أبقى التساؤلات قائمة حول الاحتمالات التي قد يسلكها في ظل المحافظة على رباطة جأشه وإمساكه بقواعده رغم التحركات على الساحة الشيعية، ما عدا بعض «الزحطات» التي كان يمكن تجاوزها.

في الواقع بَدت الساحة اللبنانية شديدة الحساسية إزاء اكتشاف المواقف الفعلية للدول الكبرى المؤثرة في الساحة اللبنانية. ولذلك أخذت شهادة السفير الاميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان أمام اللجنة الفرعية للشرق الاوسط وشمال افريقيا والارهاب الدولي للشؤون الخارجية في الكونغرس كلّ هذا الضجيج الاعلامي والسياسي.

ولكن مع شيء من التدقيق، فإنه لم يعد لفيلتمان اي مسؤولية رسمية في الادارة الاميركية، وهو أضحى خارج نطاق دائرة القرار او حتى المسؤولية. صحيح انّ كلامه يعكس الى حد ما النظرة الاميركية للوضع القائم في لبنان، الّا انّ شهادة فيلتمان جاءت في إطار الاطلاع لا تَبنّي السياسة الاميركية الرسمية، مع الاشارة الى أنّ فيلتمان الذي يعمل زائراً في معهد «بروغينز» الذي أسّسه الديبلوماسي الاميركي السابق مارتن انديك، هو كما أنديك أقرب الى توجهات الحزب الديموقراطي المعارض لادارة ترامب الجمهورية.

لكن من السذاجة أيضاً الاعتقاد أنّ واشنطن تقف بعيدة عن الاحداث الدائرة في لبنان.

في الواقع، فإنّ مسؤولية متابعة الاوضاع في لبنان بشكل دقيق ومؤثر أنيطت بالدائرة المسؤولة عن العلاقة مع السياسيين في الشرق الاوسط، والتي تتخذ مقراً لها في السفارة الاميركية في باريس.

والمعروف أنّ السفارة الاميركية في العاصمة الفرنسية هي الوحيدة في العالم التي تضم دائرة متخصصة في شؤون الشرق الاوسط لسببين اثنين:
الاول، لأنّ باريس تقع في منتصف الطريق بين واشنطن وعواصم الشرق الاوسط.

والثاني، للاستفادة من خبرات الفرنسيين والاوروبيين حيال مشاكل منطقة الشرق الاوسط التي كانت تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني والتي جرى تقسيم حدودها وفق مشروع سايكس - بيكو، وهما وزيرا خارجية لندن وباريس في ذاك الحين.

في الواقع لم تكن هذه الدائرة بعيدة عن المشاركة في وضع برنامج اللقاء الثلاثي الذي جمع مسؤولي الشرق الاوسط في وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الاميركية، والذي عقد الاسبوع الماضي عقب زيارة كريستوف فارنو لبيروت، والذي سيليه اجتماع ثانٍ قبل عودة فارنو الى لبنان مرة جديدة.

اللافت كان مشاركة المبعوث الفرنسي الى مؤتمر «سيدر» السفير بيار دوكان، الذي يعوّل عليه لبنان للمساهمة في خروجه من النفق الاقتصادي المظلم الذي يمر فيه.

ووفق المصادر الاوروبية فإنّ المجتمعين توافقوا على أنّ الوضع في لبنان أضحى خطيراً جداً، وأنّ الازمة الاقتصادية والمالية تكاد تهدم الركائز التي يقف عليها لبنان، وانّ المنتفضين لا يبدو انهم سيخرجون من الشارع قبل الحصول على مطالبهم التي تتلخص بحكومة جديدة ووزراء غير فاسدين.

ووفق المصادر نفسها فإنّ الاجتماع الثلاثي تطرّق حول كيفية مساعدة الحكومة اللبنانية المقبلة لتجاوز هذا النفق الاقتصادي الخطير، خصوصاً انّ الحكومة المستقيلة لم تنفذ أيّاً من الاصلاحات المطلوبة رغم الالحاح الذي تولّاه أكثر من طرف معني بمؤتمر «سيدر».

وبَدا أنّ الدول المعنية بـ»سيدر» ستباشر اتخاذ إجراءات جديدة تتجاوز تلك المتّبعة حالياً لضمان عدم حصول «فساد» في طريقة تنفيذ بنود «سيدر». ذلك أنه بَدا أنّ «التذاكي» لدى بعض المسؤولين اللبنانيين هدف الى الالتفاف على إجراءات حماية التوظيف المالي الغربي التقليدية والمتّبعة حالياً.

وأعطت مثلاً على ذلك موضوع تعديل مهمات الهيئة الناظمة في قانون يصدر عن مجلس النواب، كشرط لتعيين أعضاء هذه الهيئة والسماح لها بالعمل.

كذلك مسائل أخرى لها علاقة بموافقة وزارة البيئة، والتي قد تصدر وفقاً لمعايير استنسابية لا علمية، كما وصل الى مسامع القائمين على «سيدر».

كذلك جرى التطرق الى موضوع ترسيم الحدود البحرية والبرية ومن خلاله ملف الغاز البحري، الذي سيعيد دايفيد شينكر تحريكه فور تشكيل الحكومة الجديدة.

مع تأكيد أميركي أنه سيعاد الافراج عن المساعدة الاميركية السنوية للجيش اللبناني والبالغة حوالى 150 مليون دولار؟

الواضح أنّ العواصم الثلاثة باريس ولندن وواشنطن تريد حكومة جديدة بالشكل والمضمون قادرة على القيام بالاصلاحات المطلوبة كسبيل لفتح الابواب أمام «سيدر» ومساعدات اخرى. لكن ألا تفرض هذه الدول حكومة جديدة خالية من السياسيين، وبالتالي من تمثيل مباشر لـ«حزب الله»، وبهدف محاصرة «الحزب» ومحاربته؟

لا يبدو المسؤول الاوروبي موافقاً على هذا الاستنتاج، فوفق معلوماته فإنّ الديبلوماسي الفرنسي فارنو التقى رئيس جهاز العلاقات الخارجية في «حزب الله» عمار الموسوي خلال زيارته بيروت، وهو سيلتقيه على الأرجح خلال زيارته المقبلة حاملاً إليه أجوبة عن بعض الاسئلة التي طرحها.

ويتابع المسؤول الاوروبي رؤيته قائلاً إنّ اوروبا وفرنسا تريدان ان تكون الحكومة المقبلة حكومة تكنو- سياسية، وان يكون «حزب الله» ممثلاً في الحكومة بشكل مباشر، وانّ وجود «الحزب» في الحكومة «يحصّنها» ويؤمن لها حماية هي في حاجة إليها. لكنّ الوجوه السياسية المشاركة يجب ان تكون اولاً محدودة، أي 4 مقاعد تقريباً، وان تكون وجوهاً ناعمة وغير استفزازية أي من السياسيين الـ«لايت»، والمقصود أنّ هنالك اسماء سقطت في الشارع ويرفضها المتظاهرون، وبالتالي يجب أخذ ذلك في الاعتبار.

أمّا عن تمثيل «حزب الله» بمحمد فنيش، فإنّ المسؤول الأوروبي نفسه لم يجد مانعاً من حصول ذلك طالما انه لا يشكل استفزازاً لأحد، وطالما أنّ «الحزب» متمسّك به.

وفي المقابل، يقول المسؤول نفسه إنّ هناك معلومات حول نيّة الولايات المتحدة فرض عقوبات على اشخاص لبنانيين من الطائفة الشيعية وطوائف أخرى في مدة زمنيّة قد لا تكون بعيدة بعد ان اكتملت ملفاتهم، ولم يستبعد أن يكون عدداً من هؤلاء من الطائفة المسيحيّة.