ماذا يعني حرف اتجاه التظاهرات من الساحات الى عوكر؟
 

بعد حوالي أربعين يوماً على انطلاقة الثورة الشعبية اللبنانية المباركة، ما زال بعض اللبنانيين المُتورطين بأجندات خارجية، ممّن أصمّوا آذانهم عن هتافات الثورة، وعميت عيونهم عن مشاهدها الوطنية الرائعة في ذكرى الإستقلال، يحاولون حرفها عن مسارها الصحيح والطبيعي، والأخذ بها في دهاليز التعطيل، ومتاهاتٍ مظلمة تشبه كثيراً ظلامية فكرهم ونهجهم، والمثال البارز اليوم هو الدعوة للتّظاهر أمام السفارة الأمريكية للاحتجاج على تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في الشؤون الداخلية اللبنانية، والتآمر على شعبه المنتفض، وما حرفُ التظاهر من ساحات الانتفاضة الناصعة إلى ساحة عوكر إلاّ محاولة بائسة لوصم كل حركة جماهيرية عفوية وصادقة ونابعة من هموم الناس ومعاشهم وآلامهم ومعاناتهم بالمؤامرة، وذلك باستخدام خطابٍ عفا عليه الزمن، وهم لا يعدمون في خطابهم هذا تضمينه كلّ المُحسّنات البديعية والزخارف اللفظية، أو الأصوات الرنانة والترديدات المتكررة، أو التنغيمات الإيقاعية(الامبريالية الأميركو-صهيونية المسؤولة عن فشلنا وخيباتنا وارتكاباتنا وسقوطنا في مهاوي الرذيلة والفساد)، أي باختصار كل تلك الوسائل اللغوية التي يستخدمها السّجع للتّأثير على النفوس، بعيداً عن كلّ منطق وصواب وحقيقة، بالإضافة إلى ما يمكن وصفه بالإسراف اللفظي، أو "الإسهال الكلامي" إذا جاز التعبير، لكنه إ سهال لا يخلو من الدلالة والمغزى، فهو ينحو لتجهيل الفاعل الدافع للانتفاضة، والتّعمية على السبب الحقيقي لاندلاع الثورة، بعيداً عن منطق المؤامرات، واختلاق المُحبطات، وتوهين العزائم.

اقرا ايضا : خطاب الإستقلال..الرئيس ما زال في حقبة ما قبل الثورة

لعلّ العتب الأكبر اليوم في حرف وجهة الانتفاضة من ساحاتها الحقيقية إلى ساحة وهمية في عوكر، ينصبّ على خليطٍ ممّن امتهنوا المتاجرة بشعارات القومية والعروبة ومناهضة الامبريالية الأميركية، وفلول اليسار الذي ما زال مُرتهناً لديماغوجية قديمة( اعتقادية صلبة وجامدة) لم يهتدِ أحدٌ حتى اليوم كيف استطاعت أن تتوائم مع ظلامية وافدة في الفكر والثقافة والسياسة والروح والمنهج والتطبيق، يسار بدلَ أن يلوذ بالصمت بعد خيباته المتكررة(والتي لا فضل فيها بالطبع للإمبريالية الأميركية)، أو يعمد إلى تمعُّنِ في المعضلات المعرفية أولاً، والتي تتناسل منها كلّ أزماتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بل لا ينفكّ في خداعنا بنقاء فكره وعمله ونهجه في تناول مسائل كانت مُقدّسة( ومازالت في وعينا وضمائرنا) كالمقاومة ومقارعة الامبريالية الأميركية ومعاداة الصهيونية، ومناهضة التمييز العنصري ومكافحة الاستغلال الرأسمالي، في حين أنّ الدفاع عن هذه المقدسات بحاجة دائمة إلى جهدٍ محسوب يشبه الحساب الرياضي الجاف، بحاجة الى معاناة شاقّة وصبرٍ طويل، لا يتوافق بالطبع مع سماسرة الأفكار التقدمية وبائعي نضالاتها، وهي ليست بحاجة إلى من يقوم بحركات الطقوس والشعائر والجمود العقيدي، بل هي في صميم حسابات الجماهير التّواقة للحرّية وكرامة الإنسان وحقوق الروح في صياغة مستقبل مُشرق لأبنائها، والتي خرجت بصدورٍ عارية وعزائم نافذة لصنع تاريخها الناصع، والذي لا يمكنها بعد اليوم أن تتلاعب به صغارُ السلاطين وكروش الرأسماليين المنتفخة. 
قال الشاعر:
يا ويح هذي الأرض ما تصنعُ
أكُلَّ حيٍّ فوقها تصرعُ
تزرعهم حتى إذا ما استووا
عادت لهم تحصُدُ ما تزرعُ.