ازداد الشبه بين العراق ولبنان لجهة السلطة الحاكمة من جهة، ولجهة الثائرين من جهة ثانية. فالسلطتان الحاكمتان في العراق ولبنان مكونتان من نُخَب محلية، خاضعة في معظمها لإيران التي تملك ميليشيات مسلحة في البلدين. أما الثائرون في سائر المدن العراقية واللبنانية فهم في معظمهم من الشبان الذين يشكون من البطالة، وفقد سوق العمل، وغياب الخدمات الأساسية، والفساد المستشري في أوصال الدولة وإداراتها. ومن ميزات الحراكين غياب الطائفية والحزبية، وهو أمرٌ جديدٌ تماماً على لبنان، وللمرة الأولى في العراق منذ العام 2003. والميزة الأخرى سلمية الحراكين المستمرة، رغم سقوط نحو الأربعمائة بالعراق من المتظاهرين برصاص الميليشيات المسلّحة وقوات الأمن والجيش. في حين سقط اثنان أو ثلاثة في لبنان، بينهم شابٌ واحدٌ هو علاء أبو فخر قتله جندي في مخابرات الجيش.

 


على وقع الدماء المسفوكة في العراق، ودعم المرجعية الدينية للمتظاهرين، تقدمت حكومة عادل عبد المهدي بعدة إجراءات ومشروعات قوانين للإصلاح. وتقدم رئيس الجمهورية العراقية بمشروع قانون للانتخابات يتضمن تعديلات أساسية في القانون القائم. والفكرة إمكان إجراء انتخابات مبكرة خلال ستة أشهر أو عام بإشرافٍ دولي. والموضوع صعب، لكنّ المرجعية الدينية تضغط باتجاهه. وشكوى المرجعية والمتظاهرين أنّ خطوات الحكومة في الإصلاح ومكافحة الفساد غير جدية وغير كافية، رغم إنشاء محكمة مركزية لمكافحة الفساد، وتقديم عشراتٍ للمحاكمة وبعضهم وزراء أو نواب أو موظفون كبار حاليون وسابقون. وأكبر الشكوى أنّ قتلة المتظاهرين لم يُكشفوا ولم يقدموا للمحاكم، وكذلك كل الذين يمارسون الخطف والإخفاء والاغتيال.

 


أما في لبنان فإنّ المتظاهرين ما تعرضوا حتى الآن لضغطٍ كبيرٍ من الجيش والقوى الأمنية؛ لكنهم لم يحققوا الكثير أيضاً: أسقطوا الحكومة، ومنعوا مجلس النواب من الانعقاد مرتين لاعتبارهم أنه لم تعد له شرعية. ومطالبهم تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين توقف الفساد والهدر، وتعمل على استصدار قانون انتخابات جديد تمهيداً لإجراء انتخابات مبكرة. وحكومة المستقلين هذه لا يقبلها رئيس الجمهورية، ولا حسن نصر الله، وبالطبع فهم لا يقبلون بإجراء انتخابات مبكرة. ومع أنّ المالية العراقية مرهقة والبلاد مدينة؛ فإنّ وضع العراق أهون بكثيرٍ من وضع لبنان. فمصرف لبنان المركزي خسر عشرة مليارات دولار على دعم الليرة، والبنوك أقفلت لأكثر من أسبوعين، وامتنعت عن إعطاء المواطنين المودعين شيئا من أموالهم المودعة بالدولار، كما امتنعت عن إعطاء الإذن بالتحويل للخارج، حتى للتجار المحتاجين لذلك. وهناك شائعات عن أنّ الدولة لن تستطيع بعد شهور دفع مرتبات الموظفين.
الأوضاع إلى أين في البلدين؟ في العراق لن تستقيل الحكومة، والسائد أنّ الجنرال سليماني هو الذي رأى ذلك. بينما يتحدث رئيس الوزراء عادل عبد المهدي عن إجراء تعديل في حكومته. وقد أمل الإيرانيون أن يخمد الحراك بالقوة والقتل ولكنّ ذلك لم يحصل بسبب إصرار المتظاهرين، ودعم المرجعية الدينية.

 


أما في لبنان فيبدو رئيس الجمهورية يدعمه نصر الله مصراً على تشكيل حكومة سياسية، وقد يئسوا من إقناع الحريري بذلك، فمضوا للبحث عن مرشحٍ آخر بعد الفشل في تمرير ترشيح الوزير محمد الصفدي لمنصب رئاسة الحكومة. وهم مقتنعون الآن بإمكان إقناع الحريري بمرشح تكنوقراط، وما لم يتأكدوا من ذلك؛ فإنّ رئيس الجمهورية لن يحدِّد موعداً للاستشارات النيابية الملزِمة لتكليف رجل بتشكيل الحكومة العتيدة. والشائع أنّ خبيراً اقتصادياً سيُكلَّف لكنه لن يستطيع تشكيل حكومة من أي نوع!

 


في العراق يبدو أنّ الحاكمين يئسوا من إمكان إخماد التظاهر بالقوة. لكنّ الأحزاب الموالية لإيران، والمسيطرة الآن، لن تستطيع الاستمرار في تقديم التنازلات، ولن تقبل الخروج من السلطة. ويزيد من التوتر والانسداد الأحداث الهائلة بإيران، والتي شجّعت المتظاهرين العراقيين على الاستمرار والتصعيد. أمّا في لبنان فإنّ المتظاهرين وأمام كل ضغطٍ من الجيش والقوى الأمنية، يعمدون لسدّ الطرقات كافة، ويغامرون بالاشتباك بالأيدي مع القوى الأمنية. الرئيس والأمين يأملان أن يملَّ المتظاهرون لطول المدة، وأن يستاء المواطنون منهم بسبب تعطل المدارس والجامعات والأعمال والمصارف. إنما من جهة أُخرى فإنّ الأزمة الاقتصادية مرعبة، وهي في حضن السلطة ومسؤوليتها، وليست مسؤولية المتظاهرين. ولذلك هناك انسداد في الموقف السياسي والمزيد من الانقسام، وربما يفكر الحزب في إنزال محازبيه للشارع ليقول إنّ هناك شارعين. لكنه إن فعل ذلك لن يجد شخصية سنية تقبل بتشكيل الحكومة.

 


ذوو الخبرة بالسياسات الإيرانية يقولون عنهم إنهم ليسوا معتادين على البناء، ولا على التوسط والتوازن في الأزمات. وبخاصة إذا شعروا بالخطر. وهم إن لم يخضع لهم الآخرون بالقوة وبالإغراء؛ فإنهم يعمدون للتخريب بشتى الوسائل. هكذا فعلوا في العراق ولبنان وسوريا واليمن. وهم متضايقون جداً الآن، ولذا فقد يطلقون ميليشياتهم بالعراق ولبنان ضد الناس، أو قد يفتعلون تفجيرات وأحداثاً أمنية للإرعاب. هل يفيد هذا وذاك؟ كل ذلك لن يفيد في قلب الموجة، أو تحويل الأحداث والتطورات لصالحهم؛ لكنّ العادة طبيعة ثانية. أيام الخامنئي حصلت عدة تمردات وثورة عام 2009 وأُحبطت جميعاً بتكلفة آلاف القتلى، وآلاف المعتقلين. ولا يزال المرشحان للرئاسة ضد محمود أحمد نجاد في الإقامة الجبرية منذ العام 2009، ويقال إنه إذا أُحصيت القوات الأمنية والعسكرية والأجهزة والتنظيمات المختلفة فإنها تبلغ عشرة ملايين، ومنذ العام 2012 يقتل الإيرانيون وحلفاؤهم اللبنانيون والعراقيون في سوريا.

 

ومنذ العام 2014 في اليمن، ومنذ العام 2005 في العراق. وإذا قيل إنّ (العالم) ما عاد ليسمح بذلك، فماذا فعل العالم حتى الآن في هذا الخصوص. سيقال إنها أحداث داخلية ولا يجوز التدخل وينبغي احترام سيادة الدول. وفي المنظار الكبير، وإذا انتقلت المتابعة إلى المؤسسات الدولية؛ فإنّ الأميركيين والأوروبيين سيقفون في جهة، وإن الروس والصينيين في جهة أُخرى، كما حصل في كل البلدان المذكورة من قبل. لقد سمعت وجهة النظر هذه من عراقي بارز الذي نبهني إلى أنّ الفئات المحلية ذات المصالح في العراق ولبنان قد تكون على استعدادٍ للقسوة أكثر من إيران الآن، ونموذج سوريا حاضر وهو لا يكاد يُصدَّق. أما في لبنان فقد ذكر لي ضابط كبير أنه وإن لم يكن الحزب قادراً على التدخل في كل الساحات؛ فإنه يستطيع الضرب بقسوة في ساحة أو ساحتين، ولن يجرؤ أحدٌ من السياسيين على الوقوف في وجهه آخذاً من التجارب السابقة في القرن الحادي والعشرين. وقد لاحظت بالفعل قلقاً متزايداً من السياسيين في الأيام الأخيرة، وإن يكن الدافع المباشر سياسياً ومالياً. الانسداد هو سيد الموقف. والتجارب السابقة في لبنان والعراق تدعو للتشاؤم؛ والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.