كشفت الأزمة المالية - السياسية التي أصابت لبنان أنّ «حزب الله» لا يملك عقلاً استراتيجيّاً، خلافاً للانطباع الذي يحاول أن يضفيه على نفسه، وأنّ قوّته متأتّية من سلاحه فقط، وإلّا لكان بإمكانه تلافي إيصال نفسه إلى وضع يفتقد فيه الخيارات.
 

يمكن اختصار صورة الوضع الحالي في لبنان على الشكل الآتي:

أولاً، خرج الناس من بيوتهم في ١٧ تشرين الأول ولم يعودوا إليها بعد، بل المرجّح أن تشتدّ حركة الشارع لا أن تتراجع بفعل ثقل الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية التي تجعل كلّ مواطن يفقد عمله يخرج إلى الشارع. وهناك وفقاً للأرقام أكثر من ١٥٠ ألف موظّف سيفقدون وظائفهم في الشهرين المقبلين إذا راوحت الأزمة مكانها، وبالتالي سيتصلّب الشارع أكثر فأكثر، فضلاً عن أنّ الناس يعتبرون خروجهم من الشارع سيجعل وضعهم أسوأ بكثير مما هو اليوم، فيما استمرارهم في التظاهر والمواجهة يعطيهم الأمل في تغيير يعتبرون أنّه في متناول اليد.

ثانياً، الوضع المالي غير قابل للمعالجة إلّا إذا توافرت ثلاثة عوامل: مساعدات مالية فورية خارجية تؤدّي إلى إغراق لبنان بسيولة باتت مفقودة، ما يؤدي إلى إراحة الناس والأوضاع، ولكنّ الخارج يشترط لمساعدة من هذا النوع أن تكون الحكومة غير سياسية، الأمر الذي ما زال يصطدم بإصرار العهد و«حزب الله» على حكومة تكنو - سياسية.

خروج الناس من الشارع مع تشكيل حكومة يمنحها ثقته بما يعيد دورة الحياة إلى طبيعتها، ولكنّ الشارع يشترط تشكيل حكومة من اختصاصيين مستقلين.
تشكيل حكومة تحظى بدعم وإجماع وطنيين من أجل أن تتمكن من إخراج لبنان من أزمته المالية غير المسبوقة، لأنّ الانقسام الوطني سيؤدّي إلى مزيد من تعميق الأزمة واستفحالها، ولا مؤشرات توافقية حتى اللحظة.

ثالثاً، إصرار الثنائي الشيعي على تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة تكنو - سياسية ليس عن عبث، بل انطلاقاً من ثلاثة أسباب: لأنّ الرجل اختُبر بالنسبة إلى هذا الثنائي ويصلح أن يستمرّ في موقعه، ولأنّهما يريدان تجنُّب التشنج المذهبي السني - الشيعي، ولأنّهما يضمنان مع رئاسته للحكومة حصولها على المساعدات الخارجية المطلوبة بعيداً عن حكومة اللون الواحد، ولكنّ هذا الاحتمال ما زال يصطدم، بالنسبة إلى الحزب، بإصرار الحريري على ترؤس حكومة اختصاصيين مستقلين فقط لا غير.

رابعاً، رفض الحريري ترؤس الحكومة التي يصرّ عليها العهد والحزب يجعلهما أمام احتمال من اثنين، إمّا الذهاب إلى حكومة من لون واحد، خصوصاً أنّ «الاشتراكيّ» أعلن بعد «القوات» رفضه المشاركة في حكومة سياسية واستطراداً «المستقبل»، فيما أيّ حكومة من هذا النوع لن تتمكن من إخراج الناس من الشارع، ولن تحوز الثقة الخارجية، وستؤدّي الى تعميق الانقسام السياسي وتعبئة الوضع المذهبي وتسريع وتيرة الانهيار الشامل. والاحتمال الثاني تشكيل حكومة مستقلّين من دون الحريري، ولكن بالتعاون والتنسيق معه، وإلّا اعتبرت أيضاً حكومة اللون الواحد.

 

فالخيار الوحيد الذي يشكّل مخرجاً من الأزمة على ثلاثة مستويات شعبية ومالية وخارجية هو خيار حكومة اختصاصيين مستقلين، ولكنّ هذا الخيار ما زال يصطدم برفض الثنائي العهد - الحزب، فيما هذا الثنائي غير قادر حتى الساعة على فرض أيّ خيار آخر لأنّه سيصطدم بالناس والموقف الخارجي وعدم معالجة الوضع الاقتصادي.

ولم يفقه «حزب الله» التعامل مع الأزمة حيث أنّ إصراره على حكومة تكنو - سياسية حوّل خيار حكومة الاختصاصيين المستقلين إلى هزيمة له، وبدلاً من أن يقارب المسألة من زاوية مالية حصراً على غرار موقف الدكتور سمير جعجع، وأخيراً الرئيس الحريري، اعتبر أنّ الهدف من حكومة التكنوقراط إخراجه من الحكومة بطلب أميركي - سعودي، فيما المستويات التي بلغتها الأزمة المالية تجعل من المستحيل الخروج منها إلّا عبر حكومة مختلفة شكلاً ومضموناً عن كلّ الحكومات المتعاقبة بعد اتفاق الطائف، وقد طلب الحريري بشكل واضح منحه ستّة أشهر من أجل أن يعيد الاستقرار النقديّ المفقود، وبالتالي يمكن اعتبارها حكومة إنقاذ في مرحلة استثنائية ووظيفة استثنائية، فضلاً عن أنّ الحزب موجود في البرلمان ومن خلال تحالفاته بدءاً برئيس الجمهورية وصولاً إلى ترسانته العسكرية، وبالتالي المخاوف التي يطرحها ليست في محلها، خصوصاً أنّ أحداً لا ينفي أنّ الأزمة التي يشهدها لبنان غير مسبوقة منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية.

ولكن على «حزب الله» أن يفكِّر مليّاً كيف أوصل نفسه إلى انسداد في الخيارات السياسية، وخيارات موضوعة من قبل أخصامه لا من قبله، وقد تكون دينامية الأحداث أوصلت الوضع إلى ما وصل إليه، إلّا أنّه لا يمكنه أن يعفي نفسه من مسؤولية سوء إدارته السياسية التي دلّت خلافاً لما يحاول إظهاره بأنّه عقل استراتيجيّ ولديه مراكز أبحاث ودراسات وغرف قرار ولجان تفكير وتمحيص، وإلّا لكان يفترض أن يستدرك ويستشرف ما آلت إليه الأوضاع انطلاقاً من ثلاثة أسباب - أخطاء أساسية:

الخطأ الأول إهماله الواقع المعيشي والمطلبي، إذ باستثناء المواقف اللفظية التي حاول من خلالها امتصاص نقمة بيئته التي ظهرت بشكل واضح في الانتخابات، لم يقدم على أيّ شيء لإعطاء الأولوية للوضع المالي والاقتصادي، ولم يساهم بالدفع الجدّي للخروج من هذا الواقع من خلال إصلاحات جذرية، وبالتالي ظهر على هذا المستوى على هامش الأحداث والتطورات المالية الدراماتيكية التي كانت كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ الأمور تنزلق نحو الانهيار، وقد يكون مردّ ذلك إلى أولوياته المختلفة أو أنّه لا يريد أن يصطدم بحلفائه تحت العنوان الذي يلخِّص كلّ الوضع والذي وضعه نائب حليف له تحت عنوان «أحموا فسادنا، نحمي سلاحكم».

الخطأ الثاني إهماله الانعكاسات السلبية المترتبة على أداء الوزير جبران باسيل الذي سرّع سلوكه في وتيرة الانهيار، إذ بدلاً من أن تكون الأولوية لمقاربة الوضع الاقتصادي، تحولّت الأولوية للصراعات السياسية التي يقودها شخص واحد وفي كلّ الاتجاهات، فضرب الاستقرار وأدخل الدولة في شلل كبير، فيما كان بإمكانه أن يضعه عند حدّه، لأنّ المسؤولية الأساسية في تسريع التدهور يتحمّلها باسيل شخصياً.

الخطأ الثالث تعامله مع الأحداث، وكأنّه الممسك بزمام الأمور من الأكثرية النيابية إلى الأكثرية الوزارية، وما بينهما الوضع الإقليمي الذي يضعه لمصلحته، فضلاً عن سلاحه، ولكنّه لم يأخذ في الاعتبار أن الفقر يمكن أن يؤدّي إلى ثورة، وأنّ معادلة الناس زائد الوضع الاقتصادي يؤدّيان إلى تعطيل قدراته السياسية والعسكرية ويضعانه في موقع المتلقي لا المبادر، وهذا ما يفسِّر أنّه بات أمام مخرج وحيد أوحد هو حكومة الاختصاصيين المستقلين.
هل يمكن لـ«حزب الله» الخروج من الـimpasse السياسي؟ وكيف؟ للبحث صلة.