من الواضح، أن لبنان دَخَلَ بمرحلة جديدة من المواجهة بين أطراف السلطة في سياق محاولة إيجاد مَخْرَجٍ لاحتواء الانتفاضة التي سدَّدتْ في الأيام الـ35 الماضية ضرباتٍ موجعةً للائتلاف الحاكم بإسقاطها الحكومة وشلّ البرلمان. يتحصّن رئيس الجمهورية ميشال عون ومعه التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي وحلفاؤهم خلف التوافق السياسي لحسم ملف الحكومة العتيدة، تكليفاً وتأليفاً قبل تحديد موعد للاستشارات النيابية المُلزمة رغم ان الاكثرية النيابية بيده للسير بما يراه مناسباً للبلد ولفريقه السياسي. فلماذا اذاً لم يحزم امره حتى الان ويُسمّي رئيساً للحكومة العتيدة بعد مرور اكثر من 20 يوماً على استقالة الرئيس سعد الحريري ما دام الاخير يرفض ترؤس حكومة تكنوسياسية كما يرغب فريق العهد وحلفاؤه؟
 
اوساط سياسية مراقبة اعتبرت ان فريق الثامن من آذار ورغم امتلاكه للاكثرية النيابية التي تخوّله الاتيان برئيس للحكومة كما يريد، يُدرك جيداً ان اي شخصية سنّية تعيّن تفتقر الى غطاء الشارع السنّي لا يُمكنها ان تُقلّع بدليل ما حصل عند طرح اسم الوزير السابق محمد الصفدي. واشارت الى ان لا يمكن تجاوز المواقف التي صدرت عن دار الفتوى ورؤساء الحكومة السابقين الذين اعلنوا صراحةً ان الرئيس الحريري هو سيّد المرحلة ولا احد غيره يستطيع قيادة سفينة الحكومة وسط العواصف الاقتصادية والمالية. فيما بدأ الحراك الشعبي شهره الثاني، عشية عيد الإستقلال اللبناني في الثاني والعشرين من تشرين الثاني، تستمر الأزمة السياسية المفتوحة في لبنان عالقة بين حدي عودة سعد الحريري بشروطه المرفوضة من الآخرين، أو البحث عن بديل له لكن بموافقته وتوقيعه السياسي، وبالتالي، لا يبدو سعد الحريري الذي إستقال قبل أقل من شهر مستعدا للتضحية بسهولة برئاسة الحكومة، ولا قوى 8 آذار التي تتحكم بالأكثرية النيابية في مجلس النواب حالياً، حسمت أمرها بذهابها وحدها نحو خيار بديل لزعيم تيار المستقبل، بل ظل لسان حالها أن الأولوية هي لعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة أو لمن يسميه هو.
 
على ما يبدو أن الأزمة في البلاد ستكون طويلة. العناد والإصرار على عدم الاستجابة لمطالب الناس سيتسببان بالمزيد من الخسائر على لبنان واللبنانيين، خاصة في ظل وجود قوى سياسية لا تزال تعاند وترفض التنازل والتخلي عن المناصب، غير آبهةٍ بالأوضاع المالية والاقتصادية. والمعطّل أصبح معروفاً للبنانيين وللدول الغربية المعنية بالملف اللبناني، لا سيّما وأن الجميع قد استشفّ عدم نية الوزير جبران باسيل ترك الحكومة، وتمسّكه بالعودة إليها. حتى حزب الله قد وافق على تشكيل حكومة تكنوقراط يتم اختيار الوزراء فيها من الأحزاب بشكل يحفظ تمثيل القوى البرلمانية، على أن يكون هؤلاء الوزراء غير سياسيين، وليس لديهم أي تجربة سياسية.
 
لكن من رفض ذلك هو رئيس الجمهورية والوزير جبران باسيل اللذان يعتبران أن ما يجري هو التفاف على الإنتخابات النيابية، غير آبهين بالتحولات الكبرى التي حصلت، وبخروج التظاهرات من أقصى لبنان إلى أقصاه. ولذلك كل المساعي التي بذلت من قبل القوى المختلفة للوصول إلى حكومة جديدة تلبي تطلعات الناس وتحظى بثقة المجتمع الدولي، اصطدمت بإصرار باسيل على البقاء في الحكومة، لأنه يعتبر أن خروجه منها هو نكسة لمسيرته السياسية، ولا يريد تكريس مبدأ أنه منبوذ من قِبل الناس، لأن ذلك سينعكس عليه في طموحاته المستقبلية.
 
وسط هذا الواقع، وعدم تخلّي حزب الله عن حليفه، أو التدخل لإقناعه بالعدول عن موقفه، ستستمر الأوضاع في لبنان على مراوحتها، مع تزايد نسبة المخاطر الاقتصادية والمالية، خاصةً وأن الرئيس نبيه برّي قد أكد بالأمس بأن الوضع خطير جداً. في المقابل، لا تلوح في الأفق أي مبادرة دولية للمساعدة على إخراج لبنان من أزمته، خصوصاً وأن معظم الدول التي كانت تتعاطى بشكل مباشر بالملف اللبناني قد وصلت إلى قناعة أن المشكلة هي في الأداء السياسي والحسابات لدى كل طرف، وبالتالي فهي تحبذ وصول شخصيات جديدة إلى مواقع المسؤولية ترسي تغييراً جوهرياً في آلية التعاطي السياسي والإداري، وتكون قادرة على وقف الإنحدار.
 
وفي هذا الإطار تشير مصادر متابعة للاتصالات الدولية، أن هناك إشادة غربية بالإنتفاضة اللبنانية، وبأداء الشباب المطالبين بالتغيير، وهناك تصور بأن هذا التحرك السلمي لا بد له أن يحقق التغيير ولو كان بحاجة إلى المزيد من الوقت، لذلك تبرز مواقف دولية داعمة لمطالب المتظاهرين مع ربط عدم تقديم أي مساعدات للبنان قبل تلبية مطالب المتظاهرين. إلا أن تعنّت البعض سيؤدي إلى تفاقم الأزمة، ولكن هذه الحسابات ستنقلب على أصحابها عاجلاً أم آجلاً. وهذا ما سيفسر حجم الخسائر الكبيرة التي يتحملها هذا البلد وكذلك التاكيد على ان الازمة في بداياتها .