اهتمام الإدارة الأميركية بالموضوع الفلسطيني، بات يختصر بإبقاء كيان السلطة الفلسطينية عند حدود الحكم الذاتي، وإنهاء ما يسمى قضايا الحل النهائي (قضية اللاجئين، القدس، المستوطنات، الحدود).
 

واضح من مجمل السياسات التي تنتهجها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في شأن القضية الفلسطينية، بأنها تشتغل بدأب كبير في اتجاهين. يستهدف الاتجاه الأول تغيير مبنى ومعنى تلك القضية جملة وتفصيلا. ويسعى الثاني إلى تغيير مكانة إسرائيل في المنطقة، باعتبارها كيانا طبيعيا وعاديا، كغيرها من الأنظمة.

في الواقع فإن هذا وحده يمكن أن يفسّر التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو بخصوص المستوطنات. أضفى بومبيو شرعية على الأنشطة الاستيطانية لإسرائيل في الضفة الغربية. ويأتي هذا الاعتراف كامتداد لاعتراف إدارة ترامب بالقدس كعاصمة لإسرائيل (أواخر 2017)، ولسياساتها الرامية إلى تصفية قضية اللاجئين، بوقفها تمويل منظمة غوث وتشغيل اللاجئين (التابعة للأمم المتحدة أواسط 2018)، وبمحاولاتها إعادة تعريف اللاجئين الفلسطينيين، بإخراج أبنائهم وأحفادهم من ذلك التعريف، وبسعيها إلى نزع شرعية منظمة التحرير، وإغلاق مكتبها في واشنطن (أواخر 2018)، بالإضافة إلى وقفها تمويل العديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في الأرض المحتلة (أواسط 2018)؛ وطبعا تأتي في السياق ذاته شرعنتها السيادة الإسرائيلية على الجولان السورية المحتلة (مارس 2019).

على ذلك، يفترض بالقيادة الفلسطينية أن تدرك جيدا أن إدارة البيت الأبيض، عبر الاتجاهين المذكورين، تبعث برسائل مفادها، أولا، أن الولايات المتحدة لم تعد معنية بعملية التسوية، ولا باتفاق أوسلو، الذي وقّع في البيت الأبيض (سبتمبر 1993)، وإنما هي معنية بعكس ذلك، وتحديدا بالقطع مع تلك العملية، والانتهاء من ذلك الاتفاق.

ثانيا، إن الولايات المتحدة انتهت من دورها كراع لعملية السلام، مشهرة انحيازها التام لإسرائيل، في كل ما يتعلق بحقوق الفلسطينيين. ثالثا، إن اهتمام الإدارة الأميركية بالموضوع الفلسطيني، بات يختصر بإبقاء كيان السلطة الفلسطينية عند حدود الحكم الذاتي، وإنهاء ما يسمى قضايا الحل النهائي (اللاجئين، القدس، المستوطنات، الحدود). رابعا، إن اهتمام الإدارة الأميركية حاليا، في محاولة منها استثمار الظروف العربية والإقليمية الراهنة، بات يتركز على شرعنة وجود إسرائيل، من كل النواحي، وتطبيع علاقاتها في محيطها.

من كل ما تقدم يمكن الاستنتاج، بأن إدارة ترامب ليست فقط تغير روح القضية الفلسطينية، وإنما هي تغير بنية السياسة الخارجية الأميركية، أيضا، وتخرج نفسها من دائرة الالتزام بالقرارات الدولية. ومعلوم أن رؤساء الولايات المتحدة، منذ مؤتمر مدريد (1991) في عهد الرئيس جورج بوش، وعقد اتفاق أوسلو (1993)، ومفاوضات كامب ديفيد 2 (2000) في عهد الرئيس بيل كلينتون، وطرح خطة خارطة الطريق (2002)، ومؤتمر أنا بوليس (2007) إبان عهد الرئيس جورج بوش الابن، والمفاوضات في عهد الرئيس باراك أوباما (2013ـ2014)، ظلوا محافظين على صورة الولايات المتحدة (ولو الشكلية)، باعتبارها راعيا للمفاوضات وكوسيط “محايد”، بين إسرائيل والفلسطينيين، مع تمسّكها بعملية التسوية، وضمانها استقرار السلطة الفلسطينية، بيد أن إدارة ترامب أطاحت بكل ذلك.

في الواقع لا أحد يعرف كيف ستتصرف القيادة الفلسطينية إزاء هذا التطور في مواقف الولايات المتحدة، عدا عن الامتناع عن اللقاءات، وتجميد عملية المفاوضات مع إسرائيل، بخاصة مع افتقادها إلى العديد من أوراق القوة، مع الانقسام الفلسطيني، وتآكل شرعية الهيئات القيادية، وتهميش منظمة التحرير، والاعتمادية في التمويل على المساعدات الخارجية، ولاسيما بحكم هيمنة إسرائيل على حياة الفلسطينيين، من مختلف النواحي، وحتى على السلطة ذاتها.

بيد أن القيادة الفلسطينية تتحمل مسؤوليتها عن كل هذه التطورات، لأنها راهنت على مواقف الولايات المتحدة المعروفة بانحيازها لإسرائيل، باعتبارها لها بمثابة راع نزيه ووسيط محايد في عملية السلام. ولتوقيعها اتفاق أوسلو من دون البتّ في قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود، ما سهل لإسرائيل التملص من التزاماتها وتكريس واقع الاحتلال. وأيضا لكونها لم تحدد ماهية الحل النهائي في الاتفاق المذكور ولم تحدد جدولا زمنيا له، حتى أن الاتفاق لم يعرّف إسرائيل كدولة احتلال ولا الضفة وغزة كأراضٍ محتلة ولعدم استناد الاتفاق إلى القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية.

وقد يجدر التذكير هنا، أيضا، بأن القيادة الفلسطينية وقعت اتفاق أوسلو (1993) رغم معرفتها بوجود قانون سنّه الكونغرس الأميركي (1987) يعتبر منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، ضمن قانون “محاربة الإرهاب”، علما أن هذا القانون يحرّم، ضمن إجراءات أخرى، فتح مكتب للمنظمة في الأراضي الأميركية. والمشكلة أن القيادة الفلسطينية، في غمرة مراهناتها المتسرعة على الاتفاق المذكور (الذي وقعته في البيت الأبيض)، لم تبذل الجهود اللازمة للمساومة وقتها، بحضّ الإدارة الأميركية على التدخّل لدى الكونغرس لإلغاء هذا القانون.