أكد كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي، غربيس ايراديان، أنّ الضوابط على رأس المال التي فرضتها المصارف كان لا بدّ منها، مرجّحاً ان تستمرّ الى حين استقرار الوضع من جديد وعودة التدفقات المالية الى لبنان.
 

أصدر معهد التمويل الدولي (Institute of International Finance IIF) تقريراً أمس بعنوان «القيود على خروج الاموال من لبنان تظهر الحاجة إلى الإصلاح»، سلّط الضوء فيه على أنّ الضوابط على رأس المال يمكن ان تستخدم في بعض الأحيان بمثابة استجابة فعّالة لحالات الذعر غير المنطقية والمضرّة. كما انّ القيود على خروج الاموال يمكن أن تكون فعّالة في البلدان ذات خلفية ماكرو اقتصادية سليمة حيث تعمل المؤسسات بشكل جيّد.

ولفت المعهد الى انّ تشديد القيود على التدفقات الخارجية لا يؤدي فقط إلى خفض التدفقات الرأسمالية الإجمالية إلى الخارج، بل إلى تقلص التدفقات الإجمالية الداخلية. كما انّ الضوابط على رأس المال قد توقف النزيف الحاصل على المدى القصير، إلّا انّ الاستقرار المالي طويل الأجل يعتمد على إصلاحات أوسع نطاقاً.

وشدّد معهد التمويل الدولي على انّ تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة في الوقت المناسب وتنفيذ إصلاحات عاجلة يمكن أن يسهّل حصول لبنان على قروض «سيدر»، مما سيعزّز الثقة ويمهد الطريق لإزالة الضوابط الرأسمالية بأمان.

تركّز الودائع والنمو

أشار معهد التمويل الدولي الى تركّز الودائع في البنوك اللبنانية بدرجة عالية، حيث يحتفظ حوالى 1 في المئة من إجمالي عدد الحسابات بأكثر من 50 في المئة من إجمالي الودائع.

ويبلغ إجمالي الأرصدة للحسابات الكبيرة (التي تتجاوز مليون دولار أميركي) حوالى 90 مليار دولار (ما يقرب من نصف إجمالي الودائع)، بزيادة نسبتها 150 في المئة من العام 2008 إلى العام 2016.

وذكر انه منذ نهاية شهر آب 2019، تسبب تدهور الثقة وعدم اليقين السياسي وفشل الحكومات المتعاقبة في الاتفاق على تنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية التي طال تأجيلها، في تراجع إجمالي الودائع بأكثر من 10 مليارات دولار. ويمثّل نصف هذا الانخفاض هروب الاموال من البلاد، في حين انّ النصف الآخر تم سحبه نقداً وحفظه في المنازل. لافتاً الى انّ الليرة اللبنانية فقدت نحو 20 في المئة من قيمتها مقابل الدولار في السوق السوداء.

هل تؤدي القيود على رأس المال الى تعزيز الاستقرار؟

يمكن أن تعزّز ضوابط رأس المال الاستقرار المالي إذا تمّت إدارتها بشكل فعّال ولكنها ليست «رصاصة فضية»، وفقاً لمعهد التمويل الدولي الذي أوضح انّ تقييد التدفق الخارجي يمكن ان يكون أكثر فاعلية إذا كان مدعوماً بأساسيات ماكرو- اقتصادية قوية ومؤسسات موثوقة.

وإذا كان التنسيق في تطبيق هذه القيود صحيحاً وسليماً، فإنّ هذا الاجراء يمكن أن يُغني عن عمليات إنقاذ خارجية ويقلّص التهديدات التي تواجه البنوك في سداد ديونها على المدى الطويل، والتي قد تهدد بلجوء البنوك الى بيع أصولها بأسعار بخسة من أجل تغطية الطلب على السيولة.

رغم ذلك، اعتبر المعهد انّ قدرة لبنان على الاعتماد على ضوابط رأس المال مقيّدة، نظراً لأنّ القطاع المالي هو الركيزة الأساسية لاقتصاد البلاد، كما أنّ سمعة هذا القطاع كمرتكز للاستقرار مترسّخة بعمق، مما يرجّح عدم تمكّن السلطات من الاستمرار في فرض ضوابط صارمة على رأس المال لفترة طويلة من دون التشكيك في النموذج الأساسي للبلاد.

بالاضافة الى ذلك، فإنّ ضوابط رأس المال من شأنها أن تُحبط المستثمرين اللبنانيين المحتملين في الخارج وتؤثر على تدفق التحويلات المالية بسبب عدم اليقين حول إمكانية سحبها لاحقاً.

وأوضح معهد التمويل الدولي انّ الدراسات التجريبية لم تجد سوى أدلة محدودة على فاعلية ضوابط رأس المال في الحدّ من التدفقات الخارجية الصافية لرأس المال (أي التدفقات الرأسمالية الخارجة ناقص تدفقات رأس المال الداخلة)، لأنه تمّ استبدالها بقنوات غير رسمية أخرى، باستثناء ماليزيا في العام 1998 وأيسلندا في العام 2008، وهما حالتان نادرتان أدّت فيهما القيود المفروضة على رأس المال الى توقف هروب رأس المال، مما سمح لهما بإعادة تكوين الاحتياطي إلى مستويات ما قبل الأزمة، والى استقرار في سعر صرف العملة، وانخفاض في أسعار الفائدة.

وبالنسبة للبنان، فإنّ ضوابط رأس المال قد تؤدي إلى وقف النزيف على المدى القصير، لكنها تؤكد الحاجة إلى إعادة نظر في العلاقة المصرفية - السيادية المعتمدة منذ مدّة طويلة.

وشدد التقرير على انّ النظام الذي تعتمد فيه الحكومة على البنوك لشراء أحجام متنامية من السندات لتمويل عجز مالي كبير، والنظام نفسه الذي تعتمده البنوك لجذب المودعين الأجانب عبر إغرائهم بالفوائد المرتفعة، هو نظام غير مرجّح أن يستمرّ إلى أجل غير مسمّى.

إيراديان

 
 

في هذا الاطار، قال كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي غربيس ايراديان لـ»الجمهورية» انّ الوضع خطير جداً، وهو الأسوأ الذي مرّ به لبنان وعلى السياسيين استدراكه، متوقعاً ان تبلغ نسبة الانكماش في لبنان هذا العام 2 في المئة مقارنة مع توقعات سابقة عند 1,6 في المئة، «ليس نتيجة فرض ضوابط على رأس المال فقط، بل بسبب إقفال المصارف والاحتجاجات المستمرّة والجمود الذي أصاب مختلف القطاعات المنتجة».

ولفت الى انّ المصارف اللبنانية استدركت الامر منذ فترة وبدأت بفرض قيود على خروج الاموال، وهذا أمر إيجابي، «لأنه مع ضوابط رأس المال ومن دونها، كنّا سنشهد تهافتاً لسحب الاموال او تحويلها الى الخارج».

وأوضح انّ فرض قيود على رأس المال لا يمكن التراجع عنه بعد شهر أو شهرين، وانها عملية تمتد لفترة أطول، «وتوقيت سحب ضوابط رأس المال في غاية الأهمية لأنه مصيري، وأيّ وقف سابق لأوانه قد يتسبّب بأزمة كبيرة. لذلك على المصارف ان تتأكد من عودة الاستقرار السياسي ومن البدء الجدّي بالاصلاحات، ومن عودة تدفق الاموال الى لبنان، من أجل تجنّب تهافت جديد نحو المصارف».

ولفت ايراديان الى انّ عدم الشروع في الاصلاحات المطلوبة وحالة عدم اليقين السياسي والشلل السياسي القائم، عوامل تساهم في تعميق الأزمة، مشدداً على ضرورة تشكيل حكومة تكنوقراط او تكنو- سياسية تبدأ في تطبيق الاصلاحات، بما يبعث اشارات ايجابية للمستثمرين ويعزّز ثقة القطاع الخاص ويساهم في الحصول على اموال «سيدر» التي يحتاجها لبنان في هذه الظروف.

في المقابل، أكد انّ استمرار الفراغ السياسي وتواصل الاحتجاجات سيؤدّي الى مزيد من الانكماش الاقتصادي، قد يصل في الحدّ الأدنى الى 3 في المئة في العام المقبل.

وبالنسبة لمصرف لبنان والمصارف التجارية، قال ايراديان انّ البنك المركزي يملك احتياطات كافية من أجل شراء الوقت لمدّة تتراوح بين 6 أشهر الى عام في الحد الاقصى، في حال بقي الوضع على ما هو عليه اليوم من شلل سياسي. وتوقع ان يشهد سعر صرف الليرة مزيداً من التراجع في السوق الموازية، في حال لم يتم تشكيل حكومة ولم يحصل لبنان على تدفقات مالية من الخارج.

وأوضح انه اذا استمرّ استنزاف احتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية، ولم تطرأ اي تطورات ايجابية، فإنّ هذا الاحتياطي سيُستنفد بعد 6 اشهر، وسيكون اللجوء الى عملية الـHair Cut أحد الخيارات المتاحة، حيث يتم الاقتطاع أوّلاً من الدين السيادي المحلي وليس الدين الاجنبي. وشرح انّ الاقتطاع قد يطال الفوائد التي حققها اصحاب الودائع الكبرى عبر تجميدها لفترة طويلة وحصولهم على فوائد مرتفعة.

تجارب الدول

فرضت قبرص ضوابط على رأس المال في آذار 2013 بعد أن تكبّدت مصارفها خسائر فادحة في استثماراتها اليونانية، وحصلت الحكومة على خطة إنقاذ بقيمة 10 مليارات يورو من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي.

استمرّت الضوابط لمدة عامين، وتم سحبها تدريجاً خلال تلك الفترة. لم تكن القيود المفروضة على عمليات السحب والتحويلات المالية الى الخارج مدمّرة كما كان متوقعاً في البداية، لكنها ساعدت في منع خروج المزيد من الأموال من قبرص. وفي النهاية، عاد المودعون والمستثمرون الأجانب حتى مع استمرار الضوابط على رأس المال، حيث تم إعفاء الودائع الجديدة من الضوابط.

النموذج اليوناني

فرضت اليونان ضوابط على رأس المال في تموز 2015، في أعقاب حالة تهافت على البنوك نتيجة المخاوف من خروج البلاد من منطقة اليورو. تضمنت الضوابط سقفاً للسحب النقدي (60 يورو فقط يومياً) وسقوفاً لتحويلات الشركات والأفراد إلى الخارج، ولكن تم تخفيفها تدريجاً وتم رفعها أخيراً في أيلول من هذا العام.

النموذج الارجنتيني

طبّقت الأرجنتين قيوداً صارمة في مناسبات متعددة في القرن الحادي والعشرين: تجميد الحسابات والتحويل القسري من الدولار إلى بيزو في 2001-2002، وقيود متشدّدة في استخدام السعر الرسمي لصرف العملات الأجنبية من العام 2011 إلى 2015.

وفي أعقاب الانتخابات التمهيدية التي أجريت في 11 آب من العام الحالي، والتي شهدت خسارة الرئيس مكري بفارق أكبر من المتوقع لمنافس المعارضة اليساري البرتو فرنانديز، تسارعت وتيرة انخفاض قيمة البيزو مرة أخرى، مما أدى إلى ظهور سوق موازية لسعر الصرف بلغ فيها سعر صرف الدولار اكثر من 30 في المئة من السعر الرسمي.

في 1 أيلول الماضي، أعادت الحكومة فرض ضوابط على رأس المال لمدة 3 أشهر، في محاولة لوقف الانخفاض في احتياطات النقد الأجنبي والانخفاض السريع في قيمة البيزو.

وأنفق البنك المركزي أكثر من 20 مليار دولار من احتياطاته للدفاع عن البيزو منذ أوائل آب من هذا العام. هذه التدابير هي على حد سواء، انعكاس وسبب لعدم ثقة عميقة في القطاع المالي بين الشعب.