حتى الآن لا يبدو أنّ الأزمة الحادّة التي تكاد تخنق لبنان متّجهة إلى حلول قريبة. فالعواصم الغربية الكبرى المؤثرة في الساحة اللبنانية تكتفي مصادرها الديبلوماسية بترداد عبارة واحدة: «نحن نؤيّد الحراك الحاصل في لبنان بقوة، لكننا لا نزال على موقفنا القاضي بعدم التدخل».
 

عبارة يمكن تفسيرها بأنّ هذه العواصم، ولاسيّما واشنطن وباريس، لا تضعان في حساباتهما امكانية القيام بوساطة معينة أو طرح مبادرة ما، ولو أنّهما يراقبان التطورات اللبنانية عن كثب ويتابعانها لحظة بلحظة. ربما الوقت لم يحن بعد لأنّ الظروف المتوخّاة لم تنضج بعد، ولا جدال في أنّ العواصم العربية تراقب الساحة اللبنانية من ضمن الكادر الأوسع، والمقصود هنا الكادر الاقليمي الملتهب.

في هذا الوقت تجد أطراف الساحة اللبنانية نفسها في وضع الحصار، فالتراجع الى الوراء من دون مقابل يصبح هزيمة، والاندفاع الى الأمام فيه الكثير من التهوّر، بما يعنيه السقوط في فخّ الفوضى الذي ربما يراهن عليه الغرب.

تبقى المراوحة القاتلة والسعي من خلالها الى ادارة الازمة بالحدّ الأدنى الممكن من الخسائر. هكذا سقطت جلسة مجلس النواب وفق رسالة مفادها «بعد بكير على التسويات فلا تجزئة، بل سلة واحدة». لكن الواقع الضاغط يزيد لهيب الناس في الشوارع، ويضاعف وطأة الأزمة المالية والاقتصادية التي دخلت كلّ بيت لبناني.

وخلال الأيام الماضية شرع قصر بعبدا في انتزاع نقاط على المستوى الحكومي. فحكومة التكنوقراط برئاسة أسامة مكداشي أو وليد علم الدين صرف النظرعنها بعد اعتراض «حزب الله» عليها، وهو المتمسك بحضور سياسي مباشر له في الحكومة، والأسماء المقترحة تراجعت بعد التلويح باحتمال مواجهتها دولياً. وكما سقطت جلسة مجلس النواب بالامس، سقط قبلها مشروع تكليف الوزير السابق محمد الصفدي.

ووسط الأزمة المالية الخانقة التي أدّت الى إقفال مؤسسات وإفلاس شركات وتهديد أوضاع الباقين، شعر رئيس الجمهورية بأنّه محاصر وانّه لا بد من خطوة الى الامام تؤدّي الى كسر الجدار الذي يطوّقه.

وتركزت الفكرة الاولى على البحث عن شخصية سنية لتكليفها، ولكن من دون تأليف حكومة، ما دام «حزب الله» متمسكاً بالرئيس سعد الحريري، تلافياً للوقوع في فخّ مواجهة المجتمع الدولي، وأهمية الخطوة هنا هي مفاوضة سعد الحريري من موقع أقوى سيف مرفوع فوق رأسه.

لكن «حملة البحث» هنا لم تنجح في ايجاد شخصية سنية تتمتع بالحدّ الادنى المطلوب من المواصفات، وتوافق على تأدية هذا الدور، اضافة الى أنّ الشارع السني سيلتفّ من جديد حول الحريري باعتباره مستهدفاً.


لذلك جرى وضع هذه الفكرة جانباً، وعمد رئيس الجمهورية الى استمزاج رأي «حزب الله» في موضوع تكليف نواف سلام كونه يحظى بموافقة سعد الحريري، لكنّ «الحزب» أبدى اعتراضه على الاسم. وبقي أمام رئيس الجمهورية قبول تسمية سعد الحريري من جديد، ووافق «حزب الله»، ولكن بعد التفاهم على صيغة تقضي بألّا تسمّي الغالبية النيابية ايّ اسم وترك مهمة تسمية الحريري على عاتق كتلته وكتل حلفائه، ما سيجعله ينال حوالى 50 صوتاً فقط، في مقابل اكتفاء الباقين بعدم تسمية أحد.

ووفق ذلك بدأ الرئيس عون يتحضر للدعوة الى الاستشارات النيابية، وهو بذلك يحقق 3 مكاسب وفق اعتقاده: الاول أن يزيل عن كاهله عبء التعطيل ومواجهة الشارع، ومنح بعض الراحة للأسواق التجارية، والثاني ان يصل سعد الحريري وفق نتائج هزيلة جداً، أمّا الثالث، فهو رمي كرة النار في حضن الحريري ووضعه أمام ضغط الشارع بسبب صعوبة التأليف واصرار الغالبية النيابية على التمثيل السياسي في الحكومة.

في الواقع هنالك ما هو أبعد من ذلك، ويتعلق بالوضع الاقليمي، وتحديداً على الساحتين الإيرانية والعراقية.

فبعد التصريح الذي أدلى به مسؤول صيني بأن ليس لبلاده النية، لأن تكون بديلة من الولايات المتحدة الأميركية في لبنان بسبب عدم قدرتها على ذلك، ذهب الوضع في العراق في اتجاهات جديدة. فالمرجع الديني الشيعي الاعلى في العراق السيد علي السيستاني يستعد لإعلان موقف خلال الأيام المقبلة تدعو رئيس الحكومة الى الاستقالة.

وفي الوقت نفسه جرى تمرير وثائق استخباراتية عبر صحيفة الـ«نيويورك تايمز» تتحدث عن تدخلات ايرانية لتطويع مسؤولين عراقيين لمصلحة طهران، وهو ما أكّدت صحته لاحقاً وزارة الخارجية الاميركية.

والاهم هو التقرير المثير الذي نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، على 5 ذصفحات، والمنسوب الى جهاز استخبارات «المارينز»، حول تصاعد قدرة تنظيم «القاعدة» في محافظة الانبار السنية غرب العراق، وأن القوات الاميركية ومعها القوات العراقية لم تعد قادرة عسكرياً على هزيمة تمدّد «القاعدة» في الانبار. ولا حاجة للاشارة الى ان «برنامج عمل» «القاعدة» او المجموعات الارهابية سيكون مركزاً على نقاط نفوذ الايرانيين في العراق.

من أجل ذلك ربما تأخذ العواصم الغربية وقتها قبل ان تدخل على خط الزلازل في العراق ولبنان، ومن أجل ذلك ربما بات من الافضل التعامل بمرونة وليس الاستمرار في لعبة «عضّ الاصابع».