ما يجري على رقعة «الإمبراطورية الفارسية» لا يمكن اعتباره أمراً اعتيادياً. وتبدو مخاوف «حزب الله» وطهران من تداعيات حال التفجُّر التي يعيشها «الهلال الشيعي» في محلِّها. فهل هي الصدفة أن تشتعل النقمة في طهران وأكثر من 40 مدينة إيرانية، تزامناً مع اشتعال الشارع من بيروت والنبطية وبعلبك... إلى بغداد والبصرة؟
 

الأرجح، لا. بالنسبة إلى العديد من المتابعين، الولايات المتحدة موجودة في كل مكان. وقد قرَّرت «قضم أظافر» النظام الإيراني في لبنان والعراق وسوريا واليمن، ويمكن إضافة غزة. وكذلك، قرّرت استهدافه في طهران نفسها لإشغاله وإغراقه. وفي النهاية، إذا لم يتم «تغيير النظام» في إيران بعد هذه الجولة، فعلى الأقل سيتم تغيير سلوكه.

وهذا ما يدفع إلى السؤال: هل هذا يُثبت صحّة المقولة التي طالما سعى «حزب الله» إلى تسويقها، وهي أنّ الانتفاضة تموِّلها «السفارة» (عادةً يُقصد بذلك السفارة الأميركية) ومعها سفارات أخرى، ولاسيما البريطانية، كما يأتي غالباً في خطاب «الحزب» وحلفائه؟

وتالياً، هل يمكن لـ«الحزب» أن يسوِّق فرضية «المؤامرة» فقط، أم عليه الركون إلى فرضية أخرى لطالما كان من مطلقيها في مرّات سابقة، وهي أنّ الشارع انفجر على خلفية اقتصادية- اجتماعية، بسبب الاحتقان المتراكم لدى الفقراء والطبقة الوسطى، ضد سلطة تمعن في فسادها ونهب البلد؟

الواضح أنّ خطاب «الحزب» نفسه مضطرب في هذا المجال. فهو يعلن أنّه مع الحراك الشعبي ضد الفساد والفاسدين، لكنه في الوقت عينه يعتبر الحراك أداة في يد الأميركيين، هدفه الضغط لإسقاط التركيبة الحالية، وبالتالي إضعاف «الحزب» وشلّ نفوذ إيران لمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل.

ويستند «الحزب» إلى أنّ هيئات الحراك المدني هي عصب أساسي في الانتفاضة، وعددها بالعشرات، وهناك أسئلة حولها. كما أنّ الانتفاضة نفسها ليست لها قيادة محدّدة.

لكن سياسياً متابعاً للملف يستغرب هذه الظنون، ويقول: إنّ البعض يشير إلى الدور الأميركي في لبنان، من باب كونه «الشرّ المطلق»، كما يشار عادةً إلى داء السرطان، بالترميز والهمس، ومن دون الدخول في التفاصيل، فيقال: «هاك المرض». ولعلّ الوضع كان أكثر وضوحاً لو وُضع هذا الأمر على طاولة البحث والنقاش.

فالقوى اللبنانية التقليدية، ومعها «حزب الله»، تحدِّد مواقفها من القوى الخارجية استنسابياً. فهي توزِّع صفات الوطنية أو العمالة بناءً على المصالح لا على المبادئ. وبناءً على ذلك مثلاً، يتمّ تصنيف الولايات المتحدة أو إيران أو المملكة العربية السعودية أو سواها حليفاً أو شقيقاً أو «شيطاناً أكبر»!

ويقول المعنيون بالانتفاضة: عندما أعلن وزير الخارجية الأميركي موقفاً داعماً لنا، سارعنا إلى الردّ والمطالبة بعدم تدخله في شؤوننا. ورفضنا حتى جهود الموفد الفرنسي لحلّ الأزمة.

ولكن، في المقابل، قوى السلطة تتناغم مع مواقف إيران أو سواها في مسائل هي محض لبنانية، وتسوِّق لها من دون أي تحفُّظ. فمن يكون الحاصل على الدعم الخارجي في هذه الحال؟ ومَن هو المتدخّل في شؤون لبنان؟

ويردّ هؤلاء على «تُهْمَة» التدخّل الأميركي في الانتفاضة، بالتساؤل: هل الولايات المتحدة قادرة على إنزال مليون لبناني إلى الشارع، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من كل البيئات الطائفية والمذهبية، وإقناع مليون مواطن آخرين أو أكثر بأن يتعاطفوا مع الانتفاضة؟


ويجيبون: بالتأكيد لا. وهنا يسجّلون الاستنتاجات الآتية:

1- إذا كان الأميركيون هم الذين يديرون الانتفاضة المليونية، فهذا يعني أنّهم الطرف الأقوى في لبنان، وأنّ حلفاءهم هم الأكثرية الحقيقية. فهل يعتقد «الحزب» أنّ هذه هي الحال؟ وما الظروف التي أدّت إلى ذلك؟

2- إذا كانت الولايات المتحدة تدعم إسقاط الفساد وإقامة حكومة نظيفة ونظام يتلاءم وتطلعات اللبنانيين، فإنّ من الخطأ إضاعة الفرصة المتاحة، بعد عشرات من السنين كانت تسيطر فيها على لبنان احتلالات وقوى تدعم الفساد والفاسدين وتسلّطهم على الشعب… طبعاً بتغطية من الأميركيين وسواهم.

3- بالتأكيد، ليس مقبولاً أن تتدخّل الولايات المتحدة أو أي قوة خارجية أخرى في لبنان بهدف التغيير في تركيبة الحكم أو النظام، أو خوض معركة مع طرف لبناني أساسي هو «حزب الله».

ولكن، يعاني لبنان من كونه ساحة في الصراع الأميركي- الإيراني الممتد على مستوى الشرق الأوسط. و«الحزب» هو الذي دفع الأميركيين إلى مقاتلة إيران في لبنان، بسبب ارتباطه بها وجعل لبنان ساحة نفوذ لها. وإبعاد النفوذ الأميركي يستدعي في الدرجة الأولى إبعاد نفوذ إيران.

4 - إذا كان «حزب الله» يبرّر أنه يتلقّى الدعم بالمال والسلاح من إيران، لأنّها تدعم المقاومة في وجه إسرائيل. فالولايات المتحدة تقدّم دعماً للجيش اللبناني والقوى الأمنية على كل المستويات. عدا عن أنّ المؤسسات المالية الدولية كلها تدعم لبنان بتغطية من واشنطن. كما أنّ الغطاء الديبلوماسي الذي يحظى به لبنان يعود خصوصاً إلى علاقاته الجيدة مع الولايات المتحدة.

وإذا كانت العلاقات الدولية تُبنى على المصالح، فإنّ مصلحة لبنان تكمن في العلاقات الجيدة مع أميركا. وفي أي حال، ليس مناسباً له أن يصطفَّ في المحور الإيراني ضد واشنطن،لأنّ ذلك سيعرّضه لخطر مؤكّد.

وفي أي حال، يقول المعنيون، الانتفاضة انطلقت لبنانية بالكامل، وهي «ربيع لبناني بامتياز». ولكن، بعيداً من الطوباوية، ليس مستغرباً أن يراهن الأميركيون على انتصارها لإضعاف النفوذ الإيراني في لبنان والشرق الأوسط... كما يراهن الإيرانيون ويستخدمون كل ما لديهم من قوة وأدوات لإحباط الانتفاضة وتثبيت النفوذ الإيراني.

إنه التحدّي اللبناني. وبدلاً من التخوين وقطع الطريق على «بوسطة الثورة»، لئلا تدخل إلى مناطق الشيعة في الجنوب، هل يسارع «حزب الله» إلى اختصار الطرق، فيتبنّى طرح الانتفاضة بالانتصار معاً على الفساد والطائفية وإقامة الدولة الحديثة؟

وفي عبارة أوضح، هل تنعقد الصفقة اللبنانية - اللبنانية، قبل أن يعقد الأميركيون والإيرانيون صفقتهم على حساب الجميع؟