د. إبراهيم خليل
بعد 26 سنة من توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم في 13 أيلول 1993 يشعر الفلسطينيون عامة والمثقفون منهم على الخصوص بالغبن، وبأنهم كانوا ضحية، فما ظنوه حلا لقضيتهم الشائكة ما هو إلا فخ، نصبه لهم الإسرائيليون، فكانوا للأسف الطريدة التي ما فتئت تخفق أجنحتها العالقة بالشرك، وما فتئت تتنزى كمن يوشك أن يلفظ الروح. ففي كتابه القيم « الحنين- حكاية عودة « يصف الروائي الفلسطيني فيصل حوراني، الذي أخرجه الاحتلال من وطنه فلسطين عام 1948 ولما يبلغ العاشرة، وظلت المنافي والدروب تتقاذفه تقاذف الكرة بين أقدام اللاعبين من مسمية الحوراني إلى غزة فإلى دمشق التي عاش فيها طويلا فإلى بيروت والقاهرة وتونس ليصبح هذا المطارد الملاحق مسؤولا عن مكتب منظمة التحرير في فينا تارة فموظفا وكاتبا في مركز الأبحاث ببيروت مع بقائه على الدوام يحن إلى مسقط الرأس، إلى الوطن الذي كتب ذكرياته عنه في سيرة تقع في 5 أجزاء أطلق عليها جميعا عنوانا مشتركا هو « دروب المنفى(1) «.
في هذا الكتاب - وهو كتاب صغير في أقلّ من112 ص – لا يكتفي برواية حكايته مع المنفى، ولا بتذكير القارئ بموقفه المتشدد من اتفاق أوسلو المشؤوم، الذي لم يجد فيه ما يوفر الحدود الدنيا من العدالة لفلسطين ولشعبها المشرد في المنافي، وإنما وجده يُجْهزُ على  كل قطرة دم سالت، وعلى ذكرى كل شهيد سقط على طريق التحرير والعودة، بلا أي مقابل مضمون. وبدلا من أن يكتفي بذلك يروي ما دار بينه وبين عرفات الذي اختلى به دقائق ، وبسط رأيه في الاتفاق، وهو على النقيض مما كان يراه القائد، الذي لم يضق بما سمعه من حوراني. وعندما اتضح له البون الشاسع بين الرأيين قال لفيصل: « احتفظ برأيك، بل انشره إن شئت. ولنَتَحاسَبْ بعد ذلك في ضوء النتائج. «
أي أن عرفات يؤكد بهذا أن الاتفاق في مصلحة الفلسطينيين.
سنواتٌ معدودات مضتْ بعد هذا اللقاء ليتضح لعرفات، ولغيره، النتائج. فما توقعوه، هو وغيره من المفرطين في استرضاء العدو، طمَعًا فيما حققوه من مكاسب شخصية، ومن فساد غرقوا فيه حتى الأذقان. ما هو إلا قبض ريح. ذلك أن الإمعان في استرضاء الإسرائيليين قابله تشدد، وقابلته إملاءات تفرض، واستخفاف بالاتفاقيات، والتفاف على ما تم التوافق عليه. وللمؤلف حكايته مع هذا التشدد، والالتفاف. فعندما توسط له بعض النافذين ممن يتحلقون حول عرفات لكي يعود إلى غزة، فوجئ بأن الذي ينبغي له أن يأذن بالعودة هو الطرف الإسرائيلي، لا السلطة الفلسطينية.
وفيما بعد، ونتيجة تدخلات ووساطات عديدة تم استخراج تصريح يسْمح لفيصل بالعودة إلى غزة، والإقامة لمدة 30 يومًا لا أكثر. وبشرط أن يكون القدوم عن طريق الجسور من الأردن. وقد أفرد المؤلف فصلا كاملا مثيرًا عن معاناة المسافرين من الزوار، والعائدين، عبر الجسر إلى أريحا. وهو مشهد درامي يذكرنا بما كتبه مريد البرغوثي في مستهل كتابه القيم « رأيت رام الله «. فهو لا  ينتهي من الانتظار الدبق في جو حار كالمقلاة في رواية غسان كنفاني « رجال في الشمس «، إلا وقد واجه حواجز التفتيش المتكررة، والتحقيق الأمني تحقيقًا تلوَ الآخر. والاستفزاز، وتلقي الإهانات من هذا الجندي الإسرائيلي، أو ذاك، ومن هذه المجندةِ، أو تلك، حتى أولئك الذين يسمونهم شرطة فلسطينية لا يَسْلمُ العائدون، والزائرون، من استفزازاتهم، وإهاناتهم القذرة. ويمسك فيصل الحوراني بأنفاس القارئ وهو يصف بخطاب سرديٍّ روائي لكنه غير متخيل لقاءَه بذويه في غزة التي وصلها في سيارة أجرة يقودها سائق ريحاوي. فبعد 47 عامًا من الغربة والتشرد قدر له أن يلتقي أمّه، ويا لها من لحظة تتكثَّف فيها المشاعر، وتنفجر الأعين بالدموع! 47 عامًا لم يتح له اللقاء بأمه، وبإخوته، وبأعمامه. 47 عاما لم ير فيها مبنى الممدرسة في قريته المسمية التي تعلم بها حروف الهجاء، تلك الحروف التي باتت مادة لا يفتأ يستخدمها في كتابة ما يكتب من بحوث ومقالات وروايات.
لكنَّ العائد إلى وطنه على رأي أحمد شوقي ( كأني قد لقيت بك الشبابا) لم يجد في الوطن ذلك الذي علق بالذهن لدى ابن العاشرة. فقد وجده وطنا مشوها مفككا مزريًا بعد أن أفسد الذين عادوا إليه من تونس كل شيء. مصداق ذلك ما رواه الكاتب عن لقاء آخر بعرفات في غزة. لقاء لم يدم أكثر من 20 دقيقة. فعلى الرغم من مشاغل الرئيس الرمز المتعدِّدة، والملفات المتراكمة على سطح مكتبه، فهو في الوقت نفسه يترأس اجتماعا على جانب كبير من الأهمية. لقد نسي أيام دمشق..، ونسي الكويت، ونسي بيروت، وتونس.. وأصبح الآن يمارس السلطة في قصره بغزة. يقول فيصل في ذكرياته هذه كان الجو جديدًا مختلفا عن أي جو عرفته في مقرات عرفات العديدة. أنا الذي تعرفت عليه في سورية عام 1964 حين لم يكن له مقر، ثم لقيته مرارًا في دمشق وعمان والقاهرة وبيروت وتونس، ورأيت هذا الجو مصطنعا، حتى ليصعب أن تقر بأنه واقعي. ولكي لا يستغرق المؤلف في هذا قال في نفسه صاروا سلطة، وللسلطة أحكام وطقوس، أرضتك أم لم ترضك.
يعترف حوراني، ولا ينكر، بأن لعرفات مزية لا يجدها الناس في غيره من القادة، فعلى الرغم من الخلاف العاصف بين الرجلين، والتناقض الصارخ الذي بلغ حدَّ التشنج، إلا أنّ القائد الرمز لم ينفعل حين قال له المؤلف سأحتفظ مع ذلك برأيي المستقل الذي يسعدني أكثر من كل ما يتهافت عليه المحيطون بك.لا أنوي أن أفرط بهذا حتى لو صارت حياتي ذاتها مهددة. لقد حافظ عرفات على هدوئه، ورباطة جأشه، وتمنى لفيصل الحوراني التوفيق. وهذا الخلاف بين الاثنين ليس الخلاف الوحيد، فلطالما كانا على طرفي نقيض، فحين صدر القرار الأممي 242 أيده الحوراني ورفضه عرفات رفضا قاطعا شديدا. وعارض الحوراني اتفاق عمان سنة 1984 وانتهى هذا الاتفاق الذي أبرمه عرفات بنفسه سنة 1988 . ولا ينفي الحوراني أنَّ عرفات – بالرغم من هذه الخلافات- لم يكن من النوع الذي يكره، أو يبغض، من يختلف معه. فعندما أوقفه مدير مركز الأبحاث ببيروت عن العمل بسبب مقالاته التي هاجم فيها عرفات، تدخل الرئيس، وطلب من مديرالمركز إلغاء القرار، ولما قال له المدير: إنه يختلف معنا، وقد بلغ به الأمر أن ينشر مقالات يهاجمك فيها، قال عرفات لمدير المركز:  إنه يهاجمني أنا، فما دخلُك أنت؟
الطريف في هذه السيرة القصيرة التي يقتصر فضاؤها السردي على الأيام الأولى لعودة الحوراني إلى غزة بموجب اتفاق أوسلو، ثم زيارته للضفة الغربية التي لقي بسببها الأمرين ، ما ذكره عن أحد العائدين المقربين من القائد عرفات ، فقد عرض عليه هذا العائد أن يصمت، وأن يلجم لسانه، وقلمه، وله ما يشاء من الامتيازات والمناصب والمكاسب، شقق، فلل، وسيارة، وكالة سيارات، طائرة إذا شاء، ومثل هذا الذي سماهُ في السيرة (عائد) كثيرون كانوا يلتفُّون حول عرفات: مكاتب مكيفة، شاليهات على البحر، ومطاعم، وفنادق، وشركات، أصبحوا يملكونها بعد أن كان الثري منهم لا يملك شروى نقير، وكله بسطوة القوة الغاشمة التي هي شرطة احتلال بالنيابة.
واضحٌ أن هذين النموذجين من السيرة مختلفان جدا، فالأول يقتصر على حقبة قصيرة من حياة المؤلف، ويغلب عليه فيها الحديث عن موضوع واحد هو موضوع العودة، واتفاق أوسلو، وما ينطوي عليه من خطورة، لا سيما عند التطبيق. وتحفل السيرة لدى فيصل بحوارات جرت بين المؤلف وبعض الشخصيات النابهة في السياسة. وعلى الرغم من إشارة حوراني لابنته وصهره ولأقاربه إلا أن هذه الإشارات جاءت في النسق العام الموضوعي لكتابة السيرة، وتخلو من الحميمية التي نجدها في النماذج المعهودة على نمط « الأيام « لطه حسين أو « البئر الأولى « لجبرا إبراهيم جبرا، أو كتاب « حياتي « لأحمد أمين.
(1) صدرت في 5 أجزاء متفرقة في بيروت ثم أعيد نشرها معا في رام الله في طبعة من 5 أجزاء متجانسة طباعة وتجليدا.