النظام الإيراني يحاول المحافظة على حزامه الشعبي الداخلي وهو يعلم أنه بدأ يتهاوى شيئا فشيئا فالخطاب الناعم الذي ينتجه الآن لم يعد يخالج عواطف الإيرانيين.
 
تنتهج إيران في الأسابيع الأخيرة مع تبدّل العديد من المتغيرات الإقليمية وكذلك بالتزامن مع مُضيها في انتهاك الاتفاق النووي بتفعيل أنشطتها النووية، خطابا سياسيا قائما على متناقضين، إذ باتت قيادتها تروّج للغة الاستقواء في تعاملها مع الخارج، فيما تحاول في المقابل السير في تسويق خطاب مغاير للداخل الإيراني قوامه المظلومية والاستعطاف.
 
وفي الوقت الذي يتوخى فيه النظام الإيراني برأسيه الإرشادي للثورة -الذي يمثله المرشد الأعلى علي خامنئي وجهاز الحرس الثوري- وكذلك التنفيذي لمبادئ النظام عبر الرئيس حسن روحاني، خطابا مزوقا بنبرة الاستقواء وتحدّي المجتمع الدولي والضرب بعرض الحائط كل المواثيق الدولية وخاصة الاتفاق النووي عبر تفعيل تخصيب اليورانيوم مجدّدا، تذهب هذه القيادة لاستهداف الداخل الإيراني عبر إبراقها بخطاب مهادن ومفعم بمفردات المظلومية.
 
وترجم الرئيس حسن روحاني هذه اللغة المتوجّسة من اضطرابات مرتقبة قد تحصل في إيران، عبر توجّهه الاثنين إلى الشعب الإيراني بكلمات استعطاف قال فيها، إن “بلادنا تعيش أصعب أيامها منذ اندلاع الثورة عام 1979”.
 
وأضاف، خلال لقائه مسؤولين من ولاية كرمان جنوبي البلاد، أن إيران لم تواجه سابقا صعوبات في بيع البترول وتحرك ناقلات النفط، كالتي تواجهها حاليا، وأنها تمر الآن بظروف غير طبيعية. وأشار أيضا إلى تراجع مبيعات إيران النفطية بشكل كبير في أعقاب العقوبات التي فرضت عليها خلال عامي 2011 و2012، إلا أنها عادت لترتفع بعد الاتفاق النووي، وصولا إلى مليونين و800 ألف برميل.
 
وأوضح روحاني أن بلاده أنفقت 800 مليون دولار، لإعادة تفعيل آبار النفط عقب توقيع الاتفاق النووي، بعد أن كان بعضها متوقفا نتيجة العقوبات المفروضة. وأفاد بأن إيران تحتاج سنويا إلى ما يقارب الـ60 مليار دولار، من أجل وارداتها، لافتا إلى أن الضرائب لا تسدّ سوى 30 بالمئة من متطلبات البلاد.
 
يأتي هذا الخطاب الناعم والمغاير لما تريد إظهاره طهران من قوة للعالم، في الوقت الذي تشتعل فيه انتفاضات في منطقة الشرق الأوسط ضد ما كرسته طهران من نزعات وتنظيمات طائفية خاصة في العراق ولبنان. وتدرك إيران أن تداعيات ما قد يحصل من انتفاضات في العراق وإيران والتي تطالب صراحة بإسقاط النظام، قد تنعكس بصفة مباشرة على الداخل الإيراني المتململ والمحاصر بأوضاع اقتصادية صعبة، هي نتاج لسياسات نظام الولي الفقيه الذي يشن حروبا بالجملة مع دول الجوار في منطقة الشرق الأوسط ومع القوى الكبرى وعلى الولايات المتحدة التي ضيّقت الخناق على طهران خاصة بتواتر فرض عقوبات اقتصادية عليها.
 
ولئن تلقّى النظام الإيراني والدوائر المقرّبة منه بأريحية ما تمّ تداوله في بعض التقارير الأميركية لدى تعليقها على تمرّد إيران وتطاولها بتفعيل أنشطتها النووية، على أن هذه الخطوة تأتي كنتيجة لفشل سياسات واشنطن ووصول عقوباتها إلى الحدود القصوى، فإن طهران باتت تعرف أنها في وضع محرج قد يجعل خطر الثورة على نظامها الإسلامي المزعزع لاستقرار منطقة الشرق الأوسط قد يأتي من الإيرانيين أنفسهم وليس من الخارج وضغوطاته.
 
إن ما يخيف إيران في بلدان تعتبرها منذ عقود منصّات أساسية للتمدد في منطقة الشرق عبر حزب الله في لبنان والأحزاب الشيعية في العراق، ليس فقط تلك الشعارات السياسية التي رفعها المتظاهرون والتي ترفض بصماتها وأنشطتها المدمّرة فحسب، بل أيضا ما يخلق هذا الجو المحتقن من أرضية ملائمة تحيي الاحتجاجات في إيران التي مرّت بـ”بروفا” في 2018 كادت تطيح بالنظام وترمي به في مزبلة التاريخ.
 
لقد بان بالكاشف بعد أسابيع من الجولة الجديدة لاحتجاجات العراقيين واللبنانيين ضد الفساد والطبقة الحاكمة أن هذين الشعبين هما الآن بصدد القيام بثورة حقيقية على التحديات المرفوعة في ما يتعلق بمشروع إيران الرامي لضرب مفهوم الدولة ومؤسساتها وخلق دولة رديفة.
 
وتعد انتفاضة العراقيين نموذجا هاما يمكن التوقف عنده لمعرفة ما يخيف إيران، فقد حقق العراقيون خلال أسابيع إنجازات سياسية هامة، حيث التحمت مختلف الطوائف والأديان والألوان وفي مقدّمتها الشيعة خاصة في محافظة كربلاء التي هتف المتظاهرون فيها بشعارات تهدف إلى قطع أوصال نظام علي خامئني والملالي وحكام طهران، فكان شعارهم الرئيس هو “إيران برّة برّة، كربلاء حرة حرة” في لحظة تناسوا فيها الطائفية وكل شعارات المرشد السابق للثورة الإيرانية آية الله الخميني عرّاب الاتجار بالدين في المنطقة والذي خاطب سكان كربلاء عام 1982 بخطاب منمق قال فيه “طريق القدس يعبر من كربلاء”.
 
إن النظام الإيراني، يحاول الآن المحافظة على حزامه الشعبي الداخلي وهو يعلم أنه بدأ يتهاوى شيئا فشيئا. فإيران باتت في أصعب وضع اقتصادي يصارع لتجنب حافة الانهيار كما قال قبل شهرين الرئيس الأميركي دونالد ترامب “إيران أفلست تقريبا، ووضعها الاقتصادي صعب جدا”، مضيفا أنه “على قادة إيران وقف دعمهم للإرهاب من أجل إنقاذ بلدهم”.
 
وتضع إيران وهي تسوّق خطابها الناعم لمواطنيها، عام 2018 الذي كان احتجاجيا بامتياز في الكثير من محافظاتها، لأنها تدرك أن ما يحصل في كربلاء قد تنتقل عدواه إلى داخل حدودها خاصة في ظل ما أظهره سكان هذه المحافظة المحسوبة على طهران من تمرّد تام عليها لا فقط من الناحية السياسية بل أيضا من الناحية الاقتصادية.
 
حسن روحاني ترجم اللغة المتوجّسة من اضطرابات مرتقبة قد تحصل في إيران، عبر توجّهه بكلمات استعطاف قال فيها إن بلاده تعيش أصعب أيامها منذ اندلاع الثورة عام 1979
 
وتابع قادة إيران التطور اللافت في كربلاء، خاصة بعدما نفّذ سكانها حملة مقاطعة للبضائع الإيرانية في العراق امتدت إلى عدة محافظات منها النجف للمطالبة بالبحث عن أسواق بديلة لاستيراد العديد من البضائع.
 
ورفع المتظاهرون لافتات تحرّض على المساهمة في حملات المقاطعة بالتزامن مع محاصرة المحتجين لمبنى القنصلية الإيرانية في كربلاء وإحراق العلم الإيراني.
 
ويشدد أقرب المتابعين لما يحدث في العراق على أن حملات المقاطعة للبضائع الإيرانية لقيت تجاوبا وتفاعلا من قبل السكان خاصة في ما يتعلق بالبضائع التي توجد لها بدائل وهي رسالة فهمتها طهران بشكل جيّد.
 
إن إيران تجد نفسها اليوم تتخبّط في تناقضات بالجملة، حيث باتت تدرك الآن أنه لم يعد بوسعها أن تقنع مواطنيها إن اندلعت احتجاجات بأن من يقف وراء ضرب استقرارها هي مؤامرات خارجية كما علّلت ذلك في عام 2018 بترويجها أن دونالد ترامب استغل الاحتجاجات لإسقاط نظامها، وفي كل هذا أضحت تسابق الزمن لاستباق ما قد يحصل من اضطرابات متوسلة خطابا قوميا يخالج عواطف الإيرانيين ولا يذهب إلى عمق مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية.