الكاتب: محمد إقبال حرب
 
الدوحة مقدسة، قال والدي، كذلك قال معلمي وكثير من حكماء الأرض. في ظلّها ألف قرن من عمر الزمان، بخورها قِبلة الملوك وثمارها درّة التيجان. شدّ إليها الرحال جلجامش وفرعون وسليمان لينعموا من فيئها ببضع عيدان. في كنفها لون وحرف وشعب جاب الأرض باسمه لبنان، فتجلى انتشارًا نجمته قرطاج التي هزت العالم كما سمت أبجديته بالإنسان.
 
لم تشخ، لم تمت، لكن أصابها وباء من حشرات ودود المكان، فهُدّ منها الكيان. طفيليات تسللت بنعومة المنافقين، وحذق المرائين تحت شعار مسح غبار السنين، وتعب المسنين. سكنت بلاد الأرز إلى من ولد رحمها تفرح ببرهم مصدّقة وعدهم. وما أن أرخى الوطن دفاعاته لفلذات كبده حتى تجلّت عن طفيليات غزت الجسد، فغرزت مخالبها الصغيرة وأشعلت خراطيمها فامتصت نضارة الجسد وأشاعت بأن الموت سيدك أركان الوطن. تراكضت ذئاب الأرض وخنازيرها يلبّون الدعوة لإغتصاب الحسناء وسفك ما تبقى في كيانها من دماء.
 
ترنحت دوحة الوطن تحت نير طغاة الداخل الذين توارثوا ظلم وفساد المحتلين اللذين سلّموا مقادير الوطن لحثالته، فغمسوا مخالبهم في دماء المواطنين مهللين مكبرين ليوم نصر على كل من ادّعى إنسانية ووطني. مدّوا يدا من فناء إلى أصل الدوحة ليعتصروا منها لبّ الحياة بنشوة الكفرعند شيخ رزين.
 
كبرياء الوطن أنين، صراخه ارتجاج في ضمائر الشرفاء، موته بعث في براعم نمت من طهارة قدسيته. صرخة النزاع الأخير، نفير الفناء، سمعها أصحاب الضمير. ضمير البقاء والوفاء، ضمير العزة والكبرياء. شباب وشيبان ولدوا أحرارا، عصوا على الطفيليات ومخالب الغرباء، هبّوا هبّة رجل واحد، في يوم واحد يصرخون صرخة الغوث فتنهدت سيدة الوجود تنهيدة ضياء. ارتعد الفاسدون، الحاقدون، الكارهون، الناهبون الذين عاثوا في الأرض فسادا، فاستحقوا أن يكونوا رمادا.
 
نعتهم الاعلام بـ "الحراك" تارة وبالـ "الثورة" أخرى، واتهمها أرباب الحكم، نواة الفسق ولب الفجور بـ "العمالة والسفالة"، فاطلقوا كلابهم يشوهون صورتهم، ويثيرون أرضهم شغبًا، ضربًا وتهويلًا ورعبًا. لكن أصحاب العزة والكرامة تمنطقوا براية الوطن دفاعًا عن غزة الوجود وكرامة الكبرياء رغمًا عن نخاسي الأوطان، ناهبي الثروات، مثيري الفتن، حلفاء الرشاة. 
 
حلف الفناء صاحب السلطة، طوق الثورة بأرذاله، هددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور واتهمهم بالخيانة حتى تأجج البركان. مدّ لهم يدًا ناعمة تحمل السم الزعاف ليتمكن من رقابهم. كيف لا وهو طفيلي ضنين بنفحة أمل لوطن قتله بدم بارد حتى ظنّ نفسه ابليسا، أمهله الرب ليطوبه قديسا.
 
وما زال صراع البقاء متأرجحًا بين حلف الفساد المقدّس على اختلاف مذاهبه، وتعرجات متاهاته المشوبة بالقتل والفساد والتدليس. حلف يتحد في وجه كل من رفع راية الوطن حاميًا دوحته المقدسة. ثوار لا يرضون ظلًا دون ظل دوحة الوطن التي أهدت قدموس شراع الأبجدية فقدمها للبشرية قربان حضارة سمت بها إلى عالم الإنسانية. إنسانية رفضها بعض أبناء الوطن المنافقين، بل تنازلوا عن بشريتهم بلصوصيتهم وفسقهم وأصروا أن يحرقوا دوحة الوطن ليستمتعوا بوليمة النصر.