لولا 14 آذار 2005 لما وصل لبنان إلى 17 تشرين الأول 2019، لأنّ الشعوب تحقق أهدافها بالتراكم بمعزل عن الأساليب التي تتبدّل وفق كل ظرف ومرحلة، وذلك تحقيقًا للهدف الأغلى في هذه الحياة وهو العيش بكرامة وحرّية وازدهار وبحبوحة.
 

إنتفض الشعب اللبناني في 14 آذار 2005 في مشهد وحدوي مسيحي-إسلامي غير مسبوق بعد 15 سنة من الحروب و15 سنة أخرى من احتجاز القرار اللبناني في دمشق، وأدّى تقاطع الإرادة الشعبية اللبنانية مع التوجّه الدولي إلى إخراج الجيش السوري من لبنان في هدف كان بمنزلة الحلم، وعدم استعادة لبنان مقومات الدولة بسبب دور «حزب الله» لا يقلّل من أهمية هذا الإنجاز التاريخي.

بعد هذا الإنجاز دخلت البلاد في انقسام عمودي وصراع كبير بين مشروع الدولة الذي تقوده قوى 14 آذار، ومشروع إبقاء الدولة مغيّبة لحسابات خارجية واعتبارات غير لبنانية الذي يقوده «حزب الله».

وبمعزل عن الأسباب، التي لا مجال لتعدادها، لم يتمكن لا مشروع 14 آذار من أن يعيد الاعتبار للدولة، ولا مشروع الحزب من ان يعيد البلاد إلى زمن الوصاية، وقد ولّد هذا التعادل السلبي مساكنة لتقطيع الوقت في انتظار ان تزكي التطورات الخارجية هذا المشروع أو ذاك.

فمشروع 14 آذار هذا سقفه عمليًا، وقد أعطى أكثر ما يمكن ان يعطيه، وانتهى إلى ربط نزاع ضروري من أجل منع عودة عقارب الساعة إلى الوراء. وإذا كانت أهمية انتفاضة الاستقلال تكمن بتوحيدها اللبنانيين بعد عقود وسنين من الانقسام، فهذا المشروع لا يمكن أن يبلغ هدفه النهائي على قاعدة انتصار فئة من اللبنانيين على حساب أخرى، لأنّ فلسفته قامت على الوحدة، وشاءت الظروف أنّ الطرف الآخر، وهو لبناني أيضاً، تصدّى لهذا المشروع بالقوة، ما جعل انتصار هذا المشروع أو هزيمته انتصاراً لفئة وهزيمة لأخرى.

وأدّى التعادل السلبي بين مشروعين، يستحيل تقاطعهما ولا انتصار أحدهما على الآخر، إلى مزيد من تآكل الدولة وتراجع الوضع المعيشي والاجتماعي والاقتصادي وتفاقم حالة اليأس والإحباط لدى الناس، الأمر الذي ولّد هبّة شعبية عام 2015 كانت بمثابة «بروفا»، وأما فشلها فمردّه إلى عاملين: تنظيمها، أي انّها كانت منظمة فسَهُل ضربها، والنقمة الشعبية التي كانت ما زالت في بداياتها.

وبدلًا من أن تشكّل التسوية الرئاسية منطلقاً لمعالجة الشكوى الاجتماعية وزخماً لمشروع الدولة وتحسينًا للوضع المالي والاقتصادي، أدّت إلى عكس ذلك تمامًا، بفعل تصدُّر أولوية خلافة الوزير جبران باسيل للرئيس ميشال عون، فدخل لبنان في موجة من الصراعات الساخنة المتنقلة أطاحت استقراره ومن دون أي اهتمام بالوضع الاقتصادي، ما أدّى إلى تفاقم الأزمة المعيشية بشكلٍ غير مسبوق على مستوى معدلات الفقر والبطالة معطوفة على حالات القرف واليأس، فولدت ثورة 17 تشرين الأول من رحم المعاناة العارمة التي شكّلت المشترك بين جميع اللبنانيين.

وعلى رغم أهمية ثورة 14 آذار الاستثنائية بعبورها للطوائف، إلّا أنها جاءت كردّ فعل على 8 آذار واصطدمت بجدار هذا الفريق الذي منعها من هدمه لبناء جسر بين 8 و 14 آذار نحو الدولة، فيما ثورة 17 تشرين لم تولد كردّ فعل على جماعة معينة، إنما ولدت بسبب ظروف معيشية لا تُطاق دفعت شريحة واسعة جدًا من اللبنانيين إلى التظاهر تحت سقف اجتماعي مشترك.

وليس من قبيل المصادفة أنّ المتضررين من هذه الثورة حاولوا ردّها وإعادتها إلى اصطفاف 8 و 14، لأنّهم على قناعة راسخة أنّ هذا الاصطفاف سيبقى عشرات السنوات من دون نتيجة، وأنّ القضاء على ثورة تشرين يكون بتسييسها وفرطعتها وتقسيمها ومواجهتها بالأساليب نفسها من قبيل أنّها مؤامرة خارجية تقاطعت مع مؤامرة داخلية، وهكذا دواليك.

ولأنّ ثورة 14 آذار أدّت إلى توحيد اللبنانيين وأعطتهم الثقة بقدرتهم على التغيير متى توحّدوا وزرعت في قلوبهم الأمل في بناء دولة لم تكتمل معالمها، فشكّلت النموذج الذي يجب ان يُحتذى في أي مشروع آخر لا يمكن ان يبصر النور إذا لم يولد من رحم لبناني وحدوي.

وإذا كان الانقسام السياسي أسقط حلم الدولة بفعل الانقسام الشعبي العمودي، فهل تنجح الثورة الاجتماعية التي وحدّت اللبنانيين حيث أخفقت الثورة السياسية في توحيدهم؟ وتذكيراً لمن خانته الذاكرة بأنّ البند الأول في مشروع النظام السوري في لبنان كان «فرّق تسد»، وأكثر ما أقلقه كان تكسُّر الحواجز بين اللبنانيين.

فلا حياة في لبنان لأي مشروع إذا ما كانت جذوره ومنطلقاته وحدوية. وأهمية ثورة 17 تشرين الأول انّها أعادت توحيد اللبنانيين، والعنوان الذي توحّدوا حوله يصبح، على أهميته، تفصيلًا أمام أولوية وحدّتهم.

وإذا كانت الثورة السياسية عجزت عن تحقيق حلم الدولة من باب السيادة، فهل تنجح الثورة الاجتماعية في تحقيق حلم الدولة من باب لقمة العيش والكرامة، بعد ان وصل اللبناني إلى قناعة ملؤها العزم بأنّه لا يمكنه ان يعيش في لبنان بكرامته بعيداً من الفقر والذل اليومي الذي يعيشه في كل تفصيل من يومياته من دون قيام دولة الحق والعدالة؟ وفي دولة من هذا النوع يتحوّل السلاح إلى مجرد خرضة، أم انّ على اللبناني ان ينتظر قيام ثورة ثالثة تحقيقًا لهدفه وحلمه بالدولة التي لا مفرّ منها عاجلاً أم آجلاً؟