جاء الزميل الكبير سليم نصّار إلى الصحافة من الرواية، ومثل كثيرين بيننا، كان ينوي أن تكون الصحافة مجرّد محطة عابرة يتفرّغ بعدها إلى العمل الأدبي. لكن إغراء التعليق اليومي والمقال الأسبوعي جعله ينسى كيف بدأ ولماذا. كانت أول رواية له، وأجمل أعماله، بعنوان «غرباء». وتحكي قصة شاب تعلّق بحبّه الأوّل معتقداً أنها سوف تكون حبّه الأخير. رفضت الزواج به رغم حبّها له هي أيضاً، لكي تعقد ما يُسمّى الزواج المدبّر. أي الخالي من الحبّ لكنه في المقابل مليء بالضمانات والوعد بالاستقرار.

 


كما يحدث للأكثرية الساحقة من الشبّان، مضى الوقت طويلاً ونسي العاشق حبّه الأول، وغرقت الفتاة التي أصبحت أمّاً في تربية أولادها. وذات يوم، يلتقيان بمحض الصدفة. هو لم يتزوّج بعد، أما هي فتجرّ خلفها مجموعة من الأطفال يصيحون ويصرخون ويضحكون. وبدا بوضوح أنها تحمل في أحشائها جنيناً آخر. عرفته هي من الوهلة الأولى، أما هو فحاول أن يتذكّر أين رأى هذا الوجه من قبل. تتكرّر هذه الحبكة الروائية في آداب ولغات كثيرة، ولكن بطابع شخصي يتلاءم مع صاحب التجربة.

 


تخرّج كاتبنا في الجامعة الأميركية بالقاهرة حيث كان أحد أساتذته الناقد الكبير وديع فلسطين. وروى الأستاذ فلسطين للناشر (دار نلسون) سليمان بختي، أنه كان يشجّع نصّار على الانصراف إلى الأدب. تعثر على مرويات شبيهة بـ«غرباء» في كل مكان، لكن ليس بالشفافية التي تميّز بها نصّار؛ سواء في كتاباته السياسية والأدبية معاً. تحضرني في هذا الباب رواية تشارلز ديكنز الشهيرة «ليتل دوريت». وكانت عن حبّه الأول ماريّا بيدنل، وهي الفتاة اللعوب وابنة مدير أحد البنوك. ويُقال إنه عقد معها خطبة سرّية. غير أنها ما لبثت أن تخلّت عنه باعتباره مفلساً، دون عمل. وشعر هو بقلبه يتحطّم وصوّرها للمرة الأولى في رواية «ديفيد كوبرفيلد»، معبّراً عن حبّه الهائل وخيبته العظيمة.

 

وكتب يومها: «ما من امرأة في العالم يمكن أن تتخيّل كم أحببتها، وما من رجل يمكن أن يدرك ذلك». ومضت السنون ولم يعد ديكنز يرى ماريا بيدنل، إلى أن اتّصلت به ذات يوم فدعاها إلى تناول العشاء مع زوجته. وإذا بالضيفة امرأة «بدينة وعادية وغبية» وكانت خيبة ديكنز كبيرة، إلا إنه، كعادته، استغلّها لرسم شخصية تثير السخرية، فكانت شخصية «فلورا فينشينغ» في رواية «ليتل دوريت»، أحد أشهر أعماله.
ينطبق ذلك على البيت الشهير: «نقّل فؤادك حيث شئتَ من الهوى، ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل». وإذ يمرّ العمر، يصبح الحبيب الأوّل في آخر الذاكرة. وغالباً ما يتدخّل في الأمر الغباء أو السمنة ويطغى طغياناً شديداً ذلك المسعف الذي يُسمّى النسيان.