حبّذا لو يقول الرئيس سعد الحريري للوزير جبران باسيل وحليفه «حزب الله» إنّ الوصفة المقبولة والوحيدة في المرحلة الحالية لمحاولة فرملة الانهيار الشامل هي حكومة اختصاصيين مستقلة عن القوى السياسية، وإلّا ابحثوا أو فاوضوا أحداً غيري...
 

دخل لبنان في صلب الانهيار المالي، وما زال هناك مَن يصرّ على التعامل مع الأحداث وكأنّ الوضع بألف خير، فيبحث عن حصة في سلطة معرّضة بين يوم وآخر للسقوط وإسقاط كل البلد على رؤوس الجميع.

وقد يكون أفضل قرار في هذه المرحلة ترك مهمة إدارة البلد للعهد و«حزب الله»، ما داما يتحملان أساساً القسط الأكبر من مسؤولية الانهيار المالي، ويرفضان تشكيل حكومة بمواصفات المرحلة الاقتصادية، ويتعاملان مع الأوضاع وفق الطريقة التقليدية نفسها: من بيان وزاري خَشبي، إلى تقاسم الحصص الوزارية بحجة الاصطفاف السياسي ودور الكتل النيابية، وصولاً إلى مجرد تغيير شكلي في الأسماء وليس في النهج والمضمون.

والمشكلة الأكبر أنّ هذا الثنائي ما زال يصول ويجول ويشترط ويلوِّح وكأنّ المبادرة في يده، وأنه هو من يكلِّف رئيس الحكومة ويتحكّم بتوقيت التكليف وبالأكثرية النيابية، ويفتح جنّة السلطة لمَن يريد ويغلقها على من يريد، ويصوِّر كل من يقف ضد طرحه بالمتآمر على خطه ونهجه بالتنسيق والتكافل مع السفارات والغرف السوداء، فيما الواقع مختلف تماماً، حيث أنّ المبادرة في شِقّ منها في يَد الشعب الثائر، وفي الشق الآخر في يَد الوضع المالي المتدحرج الذي أخضع الجميع للانصياع لشروطه أو الفوضى.

ومن هذا المنطلق، فإنّ أفضل قرار تاريخي للرئيس الحريري أن يقول للثناثي العهد-الحزب: إمّا حكومة اختصاصيين بعيدة عن القوى السياسية وبمواصفات وزارية استثنائية، أي «زَي ما هيي»، وإمّا أن يعتذر من الشعب اللبناني عن كل محاولات الإنقاذ التي قام بها ولم يوفّق بسبب الإصرار على سياسة لا تتلاءم وظروف المرحلة، وأن يترك المهمة كاملة لهذا الثنائي الذي سيتحمّل أمام الله والشعب والتاريخ مسؤولية إفقار اللبنانيين وجَرّ لبنان إلى الكارثة الكبرى أو المحظور.

ويتساءل المرء جديّاً، بعد كل التدهور المالي الكبير، ما إذا كان هذا الثنائي يعيش في لبنان وبين الناس ويُدرك خطورة الأوضاع ومأسويّتها، أم أنّ المطلوب لأسباب مجهولة أخذ لبنان إلى المجهول؟ وإلّا لا يوجد ما يفسِّر عدم تشكيل حكومة تتلاءم ومتطلبات المرحلة، فـ«حزب الله» لن يجد من داخل بيئته من يقف مع سلاحه إذا لم يكن باستطاعته إعالة عائلته، ومقولة إنّ «الحزب قادر على الدفع» مَزحة لرفع المعنويات لا تقطَع على أحد، فوضع طهران أسوأ بكثير من وضع لبنان، والحزب يخضع لعقوبات شديدة، وقطاعات الدولة «نَشّفَت» والناس «مْفَتّحة عيونها». وعلاوة على كل ذلك، هل يُفهم من الحزب أنّ أولويته إنقاذ نفسه وعلى لبنان السلام؟

وما لا تدركه الأكثرية الحاكمة أنّ المقاربات التقليدية والكلاسيكية لم يعد من مكان لها في المشهد السياسي تبعاً للأوضاع المالية الخطيرة، وإلّا سقف البيت اللبناني سينهار على الجميع، فلا بأس من إجازة سياسية قصيرة لحوالى 6 أشهر يُصار خلالها إلى فرملة الانهيار وترتيب الوضع بالحد الأدنى المعقول، ولا بأس بعدذاك من استعادة اليوميات والخلافات السياسية، ولكن لا خيار في هذه المرحلة إلا بحكومة توحي الثقة وتكون قادرة على إنقاذ لبنان.

ومن شروط حكومة الإنقاذ، الآتي:

أولاً، أن تعطى صلاحيات استثنائية، لأنها لن تتمكن من مواجهة الأزمة المستفحلة سوى بصلاحيات من هذا القبيل.


ثانياً، إختيار أسماء معروفة بسيرتها الذاتية وكفايتها، ولبنان صغير المساحة وكل الناس تعرف بعضها بعضاً، والناجح في عمله وحقله وميدانه لا يتأثر بضغوط وإغراءات ويوحي الثقة للناس، يفترض ان ينجح في الحقل العام.

ثالثاً، أن تضم وزراء مستقلين عن القوى السياسية، بمعنى لا يأتمرون ببرامج هذه القوى من أجل أن يتمكنوا من تنفيذ البرنامج الإصلاحي المطلوب، لاسيما أنّ الأكثرية الوزارية أخفقت في تحقيق الإصلاح، وممارستها أوصَلت البلد إلى الانهيار. وبالتالي، هل يعقل أن تواصل إمساكها بالحكومة عن طريق موظفين وفي مسرحية لا تنطلي على الرأي العام؟

رابعاً، أن تتجنّد القوى السياسية والكتل النيابية لمواكبتها وتسهيل عملها، وليس عرقلتها من باب المزايدات الاقتصادية والسياسية والعمل على إفشالها، لإثبات أنّ لبنان لا تديره سوى حكومات سياسية قادت لبنان إلى المهوار.

وما يفترض أن تدركه القوى الحاكمة أنّ الخيارات أمامها معدومة، لأنها هذه المرة لا تضحك على الناس، بل تضحك على نفسها، لأنّ أي تركيبة هَشّة ومن الطبيعة نفسها القائمة لن تتمكن من قيادة عملية الإنقاذ المطلوبة، وبالتالي يفترض بها الكفّ عن محاولات التذاكي والتشاطر من خلال إعادة استنساخ الحكومة نفسها بأسماء أخرى.

وثمّة 3 عوامل لا تصبّ في مصلحة الأكثرية الحاكمة: الناس لن تخرج من الشارع إذا لمست أنّ التغيير شكلي وليس أساسياً، وأنّ الهدف من حكومة الاختصاصيين أن ينقذ باسيل ماء وجهه فيخرج كغيره من الحكومة وليس نزولاً عند إرادة الناس التي لن تخرج من الشارع في حال تألفت أي حكومة تضم باسيل.

الوضع المالي لن يتحسّن بخطوات شكلية على طريقة رفع العتب، وبالتالي كمَن يُمدّد مرحلة السقوط الحتمي لأسابيع قليلة فقط.

الفوضى التي لن يتمكن لبنان من تجنّبها إذا استمر التدهور الحاصل، ويكفي الاستناد إلى ما قاله وفد البنك الدولي إنّ «معدّل الفقر يمكن أن يرتفع إلى 50 % إذا تفاقم سوء الوضع الاقتصادي». وبالتالي، كيف يمكن تهدئة الناس الغاضبة التي لم يعد بإمكانها شراء الحليب لأولادها أو الخبز قبل الكلام على الطبابة والتعليم وغيرهما؟

ولعل أفضل ما يصحّ على واقع الأكثرية الحاكمة أنّ لبنان يغرق، وهي ما زالت تتلهّى بجنس الملائكة.