إنتهى الحراك الشعبي الى انسحاب من الطرقات الى الساحات، وبدأ العراك على كل المستويات لاستيلاد حكومة يفترض أن تكون «أم الحكومات»، لأنّ عليها التصدي لأزمة باتت «أم الأزمات»، ألا وهي الأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة التي دفعت الناس الى الشارع...
 

يبدو أنّ «أم الأزمات» هذه بدأت تدفع بعض من في السلطة وحولها الى الابتعاد عن المسرح السياسي، أو «النأي بالنفس» عن الاستحقاقات الماثلة، بل عن الأزمة السائدة برمّتها، ما يدلّ الى انّ هذه الأزمة صعبة الحل، وربما تكون، حسب تعبير البعض، «مُحرقة» لهذا السياسي أو ذاك في حال الفشل في توفير المعالجات اللازمة لها.

لكن يُسجّل، في غمرة الاتصالات الجارية تحضيراً لإنجاز الاستحقاق الحكومي تكليفاً وتأليفاً، انّ البعض يُعبّر عن زهدٍ بالكرسي سرعان ما يتبيّن أنه مُصطنع، أو ناجم من رغبة في الابتعاد عن الواجهة السياسية بأقل خسائر ممكنة في انتظار ما سيؤول إليه مصير الأزمة، التي يبدو أنّ جزءاً منها اصطُنِع في بعض الغرف السوداء الداخلية والخارجية لتحقيق غايات معينة تتجاوز الوضع الداخلي اللبناني الى ما يتصل بأزمات المنطقة وما يدور حولها من حروب هنا ومشاريع تَسووية هناك.

لدى بعض أعضاء نادي رؤساء الحكومات السابقين، وكذلك لدى مَن هم خارجه من طامحين لتولّي رئاسة الحكومة الجدية، تَهيبٌ من تولّي الموقع الثالث في هرم السلطة هذه المرة، نظراً للمهمة الخطرة التي تنتظره.

فالبلاد تقف، في رأي بعض أصحاب الاختصاص، على شفير انهيار اقتصادي ومالي ما لم تتخذ إجراءات عملية عاجلة تمنع هذا الانهيار، ومن بينها ما تضمّنته الورقة الاقتصادية الاصلاحية التي أقرّها مجلس الوزراء قبَيل أقل من أسبوعين على استقالة الحكومة الحالية.

ولذا، فإنّ مَن سيتولى رئاسة الحكومة العتيدة سيكون عليه خَوض مغامرة مهمة وخطرة، فإذا نجح سيسجّل له «إنجاز تاريخي» في أنه أنقذ البلاد من الانهيار في لحظة تاريخية دقيقة، امّا اذا أخفَق فإنه سيسجّل له أنه حاول ولكن. وذلك على قاعدة انّ من يعمل ويخطئ له أجرٌ، وأنّ من يعمل ويصيب له أَجران.

لا يعتقد كثيرون انّ تلويح الرئيس سعد الحريري بالعزوف عن تأليف الحكومة هو تعبير عن رغبة نهائية بالابتعاد عن المسرح السياسي وعن السلطة في هذه المرحلة بسبب ضخامة الأزمة السائدة سياسياً واقتصادياً ومالياً، ولكنّ البعض ينصح الحريري بهذا الابتعاد تاركاً لغيره مهمة التصدي لهذه الأزمة لعلّه يُنهيها فيرتاح هو ويُريح غيره. علماً أنّ بعض القوى السياسية التي حاولت، بل ركبت موجة الحراك الشعبي ومطالبه، إنما أرادت الهروب من الأزمة عبر الابتعاد عن السلطة والتفَلّت من شراكتها مع الافرقاء الآخرين في المسؤولية عن الأزمة التي تراكمت منذ 30 عاماً، كانت خلالها هذه القوى مُجتمعة شَريكة في السلطة وفسادها على كل المستويات.

لا يُخفي الحريري رغبته الخروج من رئاسة الحكومة الى رحاب المجلس النيابي، أمام غالبية مَن يلتقيهم هذه الايام، وقد كان صريحاً في التعبير عن هذه الرغبة بقوة أمام الوزير علي حسن خليل الذي نقلها سريعاً الى رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي كان له على الأثر إتصال بالحريري وَصفه قطب سياسي كبير بأنه «حار جداً»، حيث فاتَحَه خلاله برغبته عدم تولّي رئاسة الحكومة الجديدة. لكنّ بري أكد للحريري أنّ عليه البقاء مع الجميع في تحمّل المسؤولية لمعالجة الأزمة التي تعيشها البلاد سياسياً واقتصادياً ومالياً، وقال له ما معناه: «ماذا أنت فاعل؟ إنّ الهروب من تحمّل المسؤولية في هذه المرحلة ممنوع».

معنى كلام بري هذا، هو أنه يؤيّد بقوة تكليف الحريري تأليف الحكومة الجديدة، على رغم استيائه الشديد من استقالته الاخيرة التي لم يكن يؤيدها. ويدرك «حزب الله» موقف بري المؤيّد بقاء الحريري في رئاسة الحكومة ويتفهّم أسبابه ودوافعه، لكنه، أي الحزب، لن يسمّيه في استشارات التكليف النيابية الملزمة التي سيجريها رئيس الجمهورية قريباً، وذلك التزاماً لموقفه التقليدي، إذ انه لم يُسمّ يوماً الحريري الأب لرئاسة الحكومة، وهو لن يسمّي الحريري الإبن الآن، علماً أنّ أمينه العام السيد حسن نصرالله لم يكن يؤيّد استقالته، بل انه عبّر عن دعمه لبقائه عندما أكّد قبَيل انطلاق الحراك الشعبي وخلاله انّ الحكومة لن تستقيل، وستعمل على تنفيذ بنود الورقة الاصلاحية التي أقرّتها، والتي تتجاوب فيها مع كثير من مطالب الثائرين ضدها في الشارع.

حكومة التكنوقراط غير مقبولة، يقول القطب البارز، مضيفاً أنها تعني «النأي بالنفس»، وهذا ما يفتح الباب لتدَخّل دول وجِهات خارجية في الشأن الداخلي اللبناني، ما يزيد الشرخ بين القوى السياسية التي عليها التعاون على معالجة الأزمة.

في حين أنّ «اتفاق الطائف»، الذي انتقلت بموجبه السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعاً، يفرض أن تكون الحكومات سياسية لأنّ صلاحيات السلطة التنفيذية، التي كان يتولّاها رئيس الجمهورية بمعاونة وزراء يختار من بينهم رئيساً يسمّى «رئيس الوزراء» أو «الوزير الأول»، أُنيطت بمجلس الوزراء مجتمعاً، وباتَ السلطة التنفيذية الجامعة التي تتمثّل فيها كل مكوّنات المجتمع اللبناني.

والمقبول في هذا السياق، يضيف القطب الكبير نفسه، هو أن تكون الحكومة سياسية مطعّمة بوزراء من التكنوقراط، أو حكومة تكنو- سياسية، بحيث يكون وزراؤها سياسيون من التكنوقراط، تختارهم القوى السياسية التي يتقرّر تمثيلها وزارياً، ومثل هذه الحكومة يمكن الحريري أن يتولى رئاستها في حال سَمّته الأكثرية النيابية في استشارات التكليف، وكذلك يمكن لأي شخص أن يتولّاها في حال نال تأييد تلك الأكثرية النيابية.

أمّا في حال عدم الاتفاق على شخص رئيس الحكومة الجديدة وعلى تركيبتها الوزارية أسماء وحقائب، فإنه يُخشى في هذه الحال أن تدخل البلاد في فراغ حكومي الى أجل غير معلوم...