استئناف إيران تخصيب اليورانيوم ورقة ضغط هدفها تحسين شروط التفاوض.
 
 لم تتفاجأ الدوائر الأميركية بما أعلنته إيران عن استئنافها تخصيب اليورانيوم في مصنع فوردو تحت الأرض، لأن ما أعلنه الرئيس الإيراني حسن روحاني كانت طهران قد هددت به قبل أشهر في محاولة للضغط على شركاء الولايات المتحدة الموقعين على الاتفاق، لاسيما الدول الأوروبية منها.
 
وتزامنا مع الخفض الجديد من قبل طهران لالتزاماتها داخل الاتفاق النووي الموقع في فيينا عام 2015 مع مجموعة الـ 5+1، فإن واشنطن بدأت تشعر أن طهران تستغل الانقسام الدولي حول الموقف من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق، وتستخدم حالة الشلل التي تعتري الأوروبيين داخل هذا الملف، علاوة على انشغال ترامب وإدارته بالانتخابات الرئاسية من جهة، ومحاولة عزل الرئيس الأميركي من قبل الكونغرس من جهة أخرى، لفرض أجندتها داخل هذا النزاع.
 
وخطت طهران خطوة بعيدة في إعلانها الثلاثاء عن استئناف تخصيب اليورانيوم في مصنع فوردو تحت الأرض، على بعد حوالي 180 كم جنوب طهران. وكانت اتفاقية فيينا قد منعت استخدام أجهزة الطرد في هذه المنشأة لأغراض التخصيب وجعلت من “فوردو” موقعا لأعمال البحث العلمي.
 
وترى مصادر دبلوماسية أن العقوبات الأميركية وصلت إلى حدود قصوى، وأن الكلام عن مستويات جديدة من العقوبات لم يعد يشكل إضافة نوعية كبرى على الأعباء التي تتكبدها إيران جراء عقوبات واشنطن. وتضيف المصادر أنه مع تكرار التأكيد من قبل واشنطن على استبعاد الخيار العسكري، ومع اضطرار إدارة ترامب إلى عدم المخاطرة بأي إجراءات صدامية ضد طهران قد تؤثر سلبا على حملة ترامب الرئاسية، فإن طهران تبدو للوهلة الأولى أكثر رشاقة في شنّ هجماتها المضادة.

ويتوافق ما أعلن عنه روحاني مع المرحلة الرابعة من خطة تخفيض التزامات إيران في إطار الرد على انسحاب واشنطن الأحادي من الاتفاق النووي. فمنذ شهر مايو الماضي بدأت طهران في إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 4.5 بالمئة، وهو معدل أعلى من الحد الأقصى البالغ 3.67 بالمئة الذي نصت عليه الاتفاقية، ولكنه يبقى بعيدا عن معدل الـ90 بالمئة الذي يحتاجه اليورانيوم لإنتاج القنبلة النوية.

وتتحدث بعض التقارير عن أن إيران تنتج هذه الأيام 5 كيلوغرامات من اليورانيوم المخصب يوميا، مما يؤدي إلى تجاوز الحد الأقصى البالغ 300 كيلوغرام من المخزونات التي يفرضها اتفاق فيينا.

وتبني طهران استراتيجيتها المتدرجة على سياق هدفه عزل الموقف الأميركي وحرمانه من أي تضامن من قبل بقية البلدان الموقعة على الاتفاق.

وتقدم طهران أمر التخفيف من التزاماتها النووية بصفتها لا تحاكي موقف واشنطن، بل تضغط على موقف الدول الأوروبية الثلاث، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا، لاتخاذ مواقف وانتهاج سبل لحماية الاتفاق ومنع انهياره.

وتلفت مصادر أوروبية إلى أن الرئيس روحاني وجه إنذارا للأوروبيين دون غيرهم يمنحهم من خلاله فترة شهرين لإقناع بلاده بالبقاء داخل الاتفاق.

لكن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون بصفته أحد أهم الوسطاء في هذا الملف، وصف الأربعاء في بكين القرارات التي أعلنتها إيران حول استئناف نشاطات تخصيب اليورانيوم المجمدة حتى الآن بـ”الخطيرة”، داعيا إلى “استخلاص النتائج بشكل جماعي”.

وقال ماكرون “للمرة الأولى وبشكل واضح ودون تحديد سقف، تقرر إيران الخروج من إطار خطة العمل المشتركة الشاملة (الاتفاق النووي الموقع في 2015) وهو تغيير كبير”.

وأضاف “سأجري مناقشات في الأيام المقبلة، بما في ذلك مع الإيرانيين وعلينا أن نستخلص النتائج بشكل جماعي”.

يبدو أن طهران لا تملك خيارات كثيرة غير تلك الضغوط التي تمارسها والمتعلقة بالملف النووي. فقد علّقت طهران تهديداتها الأمنية والعسكرية، وعادت إلى الحديث عن التعاون الأمني في مضيق هرمز ومياه الخليج بدل التهديد بإغلاقه، كما أنها فشلت في جرّ واشنطن وبلدان المنطقة إلى أي صدام عسكري.

في المقابل تستمر واشنطن في الرفع من مستويات ضغوطها منذ أن دخلت تلك العقوبات في طور موجع لإيران حين قررت إدارة ترامب في مايو 2019، تنفيذ استراتيجية الضغوط القصوى، وشددت عقوباتها بإزالة الإعفاءات التي كان يتمتع بها زبائن إيران الثمانية الكبار من الخام الإيراني، بما في ذلك الصين والهند واليابان.

وتعمل طهران على اتخاذ مواقف لا تمثل أي قطيعة مع المجتمع الدولي. فقد أعلن روحاني أن أجهزة الطرد المركزي لفوردو ستظل تحت مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مثل بقية أنشطة إيران النووية. وأكد أن التدابير التي اتخذتها بلاده قابلة للتوقف، وأن طهران مستعدة إلى تنفيذ الكامل التزاماتها بمجرد احترام الأطراف لالتزاماتها.


ويرى مراقبون أن روحاني ما زال يفتح أبواب المفاوضات، وأن ما أعلنه حول منشأة فوردو ورقة ضغط تريد إيران من خلالها تقوية موقعها التفاوضي.

وتسعى طهران للإعلان أنها ليست دولة معزولة وأنها على تواصل مع دول العالم حتى لو كان الأمر يجري خلف الكواليس، حسب تعبير روحاني.

غير أن أمر ذلك التفاوض يتناقض مع ما أعلنه المرشد الإيراني علي خامنئي قبل أيام عن رفض بلاده التفاوض مع الولايات المتحدة، ويتناقض أيضا مع الهجوم الذي شنه ضد فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون بسبب سعي الأخير لتعبيد الطريق للقاء يجمع الرئيسين الأميركي والإيراني على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي. وذهب المرشد إلى وصف ماكرون بالسذاجة واتهامه بالتواطؤ.

وتعتقد مصادر إيرانية مراقبة أن طهران تشعر أن موازين القوى ليس لصالحها للذهاب إلى المفاوضات وأنها تحتاج إلى ممارسة المزيد من الضغوط والتلويح بذهابها بعيدا في اختراق الاتفاق النووي قبل الموافقة على أي طاولة وحوار. وتقول المعلومات إن ماكرون كاد ينجح في جمع ترامب وروحاني في نيويورك قبل أن يرفض الأخير في اللحظة الأخيرة هذا اللقاء، علما أن روحاني عاد وأقر بعد عودته إلى طهران، أن “الخطة الفرنسية كانت مقبولة”.

واقترح ماكرون  خطة تلتزم فيها إيران بالتزاماتها في اتفاق فيينا، وقبول المفاوضات لتمديد الاتفاق إلى ما بعد 2025، ووضع حد لسياستها العدوانية. بالمقابل تحصل طهران على رفع العقوبات الأميركية وإمكانية تحرير عائداتها النفطية من أي قيود. فيما لم يكن واضحا ما إذا كانت الخطة الفرنسية تلحظ التفاوض حول برنامج إيران للصواريخ الباليستية. وتقلق أوروبا من أمر تخفيض إيران لالتزاماتها في الاتفاق النووي. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية أنييس فون دير مول إن باريس تحث إيران على التراجع عن قراراتها والتعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فيما قالت المتحدثة باسم فيديريكا موغيريني (التي تمثل الدبلوماسية العليا للاتحاد الأوروبي) “نحن قلقون للغاية”.

إن السجال في جانب منه أوروبي إيراني، فيما واشنطن ممعنة في سياسة العقوبات التي طالت قبل أيام تسعة أعضاء من حاشية علي خامنئي، بما في ذلك أحد أبنائه ومدير مكتبه. وبينما تعبر موسكو وبكين عن مواقف تعتبر أن تصورات إيران منطقية لكنها تهدد الاتفاق النووي، يتساءل البعض عن حكمة استراتيجية طهران في الضغط على الأوروبيين وإعطائهم مهلة شهرين قبل الذهاب إلى تهديد الاتفاق، في غياب أي ضغوط تمارسها إيران على الصين وروسيا، وهما دولتان موقعتان على الاتفاق، تضامنتا دبلوماسيا مع إيران، لكنهما لم تتخذا إجراءات اقتصادية ترد عن طهران شرور عقوبات واشنطن وتعوضها عما تخسره.