لا شك في أنّ الأمن المثالي والمَمسوك إلى حد كبير من جانب القوى الامنية والعسكرية يفُاجئ الوطن بجميع مكوّناته شعباً وحكاماً، على حدّ سواء، بعكس حالته في الماضي القريب حيث كان الى حد كبير أسير السياسيين وليس الوطن. هذا بالنسبة الى الأمن، أمّا بالنسبة إلى الشعب فهو بدوره فاجَأ الوطن بجميع مكوّناته بحراك كان غاية في التنسيق والانسجام والرقي، خصوصاً في طرابلس التي كانت «عروس الثورة» المتألقة والمتجدّدة... يبقى في المقلب الآخر أداء السياسيين الذي بدوره فاجأ الوطن بـ«بَلادته»، وقد ترجمها هؤلاء من خلال التريّث في المبادرات والمراهنة على الوقت.
 

حكماء مدينة الفيحاء يَصفون لـ«الجمهورية» الوضع الراهن بـ«البلادة السياسية الغريبة الشكل»، ويُثمّنون تدفّق أبناء الأقضية الى عاصمة الشمال، خصوصاً في اليومين الماضيين، حين كانت المُبادِرة الى إعلان العصيان المدني بعدما طَفح كيلها من حال الإنكار التي يعيشها الحكام، بالرغم من الرسالة القوية التي وصلت الى المسؤولين كافة واستحقّوها، وعوض المبادرة الى طرح الحلول المتقدمة، تحرّك البعض سياسياً وشعبياً لاستعادة تَموضعهم السابق.

عن خطابات المنصّات

يقول أحد أصدقاء رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري المقرّبين منه، انه بعد استماعه الى الخطاب الأول للرئيس عون وَجده خارج السياق، لكنّه استبشَر خيراً عند تَمعّنه في الخطاب الثاني الذي فتح نوافذ حقيقية للحل، واستعداداً للذهاب الى تسويات معينة. أمّا خطاب الأمين العام لـ«حزب الله»، فوجَد «الراوي» أنّ السيّد نصرالله أقرّ بوجوب إخضاع أسباب الانتفاضة للعلاج والنقاش، لأنه اقتنع بالبراغماتية الشعبية المُنتفِضة على الجوع وعلى الوضع القائم. فيما وصف تظاهرة «التيار الوطني الحر» بالمعركة الخاسرة سلفاً بسبب حجم التفاوت بينها وبين باقي التظاهرات.

وتعليقاً عليها قال: «ولو كانت مشروعة فرئيس «التيار» استعجَل في خطابه، فلم يكن موفّقاً حين قال انّ موجة الانتفاضة ارتفعت ثم انحسرت، وانّ الموجة المقبلة هي موجتنا، رافعاً من بعبدا أعلام «التيار» للقول إننا من هذه الساحة نفرض شروطنا من جديد، وكأنّ شيئاً لم يكن، وكل شيء باقٍ على ما هو عليه»!

أين الحل؟

يرى بعض العونيين أنه من الوقاحة الطلب الى رئيس الجمهورية تعيين موعد للاستشارات النيابية باعتبار أنه أدرى بصلاحياته، وذلك ما حفظه له الدستور. هذا الواقع هو أمر موجِع برأي صديق الحريري، الذي قال لـ«الجمهورية» إنّ هناك مواقف ليست في حاجة الى نصوص دستورية بل «ça va de soit» (من تلقاء نفسه)، أي يجب أن تكون تلقائية من رئيس البلاد، خاصة إذا طرأ أيّ خطر على البلاد، ومن واجب الحكومة والرئيس التصرّف وليس الرجوع الى بنود الدستور، موضحاً أنّ الدستور لم ينص على مدة معينة، لأنّ الأمر ليس في حاجة الى نص، ولأنّ واضعي الدستور اعتبروه أمراً تلقائياً، وفي حالة عدم التصرّف تكون المخالفة للدستور، وليس العكس.

أمّا الحل، بحسب صديق الحريري، فليس في من يدخل الى الحكومة ومن يُستبعد منها، بل يقوم على تسوية جديدة، كاشفاً أنّ الحريري حين قدّم استقالته قال لرئيس الجمهورية: «أنا أجريتُ تسوية معك وليس مع باسيل، كيف الخلاص؟

يكرّر صديق الحريري نصيحة، فيقول: «الخلاص بإعادة الاعتبار للتسوية التي تمّت بين الافرقاء، والتي أدّت الى وصول عون الى الرئاسة. وكانت لهذه التسوية شروط وقواعد، وبمجرد أن وصلَ عون الى الرئاسة ضربَ العهد بعرض الحائط كل الشروط والقواعد»...

لذلك يضيف: «اذا أردنا إعادة الاعتبار الى التسوية يجب علينا إعادة التوازن اليها لأنه، وبصرف النظر عن التوازن السياسي الداخلي القائم، فإنّ التوازن التاريخي المُجتمعي اللبناني لا يسمح بالخلل، وفي كل مرة يحدث الخلل ينفجر البلد... يبدأ الحل بالكَفّ عن استعمال لبنان محوراً أو أرضاً للمحاور، وهنا يجب على اللبنانيين الشرفاء المبادرة واستعادة دورهم بمساحة مفتوحة وحرّة لجميع الناس ليعود لبنان ممراً اقتصادياً وثقافياً للجميع في الشرق، وعندئذ يستعيد لبنان ثقته بنفسه وثقة المجتمع العربي والدولي. وهذا لا يحصل إلّا اذا ترافقت «التسوية الجديدة»، باتفاق مع الاتحاد الأوروبي ومع دول الخليج بالتوازي لتشكيل وسادة مالية ذات قيمة ووزن توقِف الانهيار النقدي في البلد، وفي هذه اللحظة نكون أمسكنا بطَرف الخيط لنبدأ حياكة لبنان الجديد».

ولم يتردد صديق رئيس الحكومة المستقيل عن الكشف لـ«الجمهورية» انّ الاتحاد الأوروبي ليس بعيداً عمّا يجري على الارض، وهو يراقب من بعيد مجرى التطورات، وهو اليوم في صميم تلك المفاوضات، وكذلك البلاد العربية التي تبدو أيضاً متجاوبة، وفق تعبيره. كاشفاً عن أنّ الحريري، وفي آخر زيارة له للامارات، بحثَ في هذا الصدد مع المعنيين.

هل يبادر «الحزب» ؟

وفي السياق، لفتَ صديق الرئيس الحريري الى أنّ الانتفاضة التي حصلت أنتجَت نتائج سياسية لم يكن باستطاعة، حتى الحروب، إنجازها. مذكّراً بأنّ الحكومات في لبنان يوقّع عليها «حزب الله» قبل التشكيل، لكنّ الوضع اختلف اليوم «لأنّ الحزب كان قد نَصب خيمته في الحكومة على وَتدَين: شيعي ومسيحي. وبعدما تَحلّل اليوم الوتد الشيعي، أصيب الوتد المسيحي بأضرار فادحة. وبما أنّ الحزب لديه البراغماتية الخاصة به، فإنه سيلجأ الى إعادة التموضع لإنتاج صيغة أخرى، لأنّ الدولة هي حاجة ماسّة له وللطائفة الشيعية تحديداً... وإنّ أي كلام على أنّ «الحزب» يريد أخذ البلاد الى الفوضى هو تحليل غير مدروس، لأن لا مصلحة للحزب في الفوضى».

ولدى سؤاله: هل يُبادر الحزب؟ أجاب صديق الحريري: «الأمر مرهون بتَعقّله، وهو وحده الذي سيقول للرئيس ما يجب قوله»...

أمّا عن عودة الحريري فيقول صديقه: «لا أعلم اذا كانت تسمية الحريري تشكّل «حاجة للتسوية الجديدة» أو يمكن أن تكون «حاجة خارجية» وليس فقط داخلية، ولكن ما أعلمه هو أنه كان ذكياً حين تَقبّل النصيحة. إستقال، وبعد الاستقالة كان أكثر ذكاءً عندما اكتفى بالابتعاد والصمت».

وعن الحلول قال: «مثلما استطاع اللبنانيون استنباط أفكار للثورة، يُمكن لحكّام لبنان ولمسؤوليه استنباط الحلول. ولطالما تذاكى اللبنانيون للخروج من أزماتهم... والبلد لا يخلو من المُستشارين والاختصاصيين الرائدين في حياكة الافكار والتسويات، وتبقى العبرة في «المُبادرين».