يجزم أكثر من خبير قانوني ودستوري أنّ الدستور اللبناني لم يَحوِ في أيّ من مواده الـ 102 كلمة شارع أو ساحة، فيما اللبنانيون محكومون بمنطق الساحات والشوارع. لذلك، أيّ توصيف يمكن أن يُعطى لأسلوب الحكم في لبنان إذا ما كان «الكتاب» مطويّاً لا يفتحه أحد؟ وعليه، ما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
 

يعتقد البعض، ممّن أتقنوا الفقه الدستوري، أنّه من السخف الحديث في هذه المرحلة التي تمر فيها البلاد عن القانون والدستور الذي ينظّم العلاقات بين المؤسسات الدستورية في لبنان. فهما - كما يقول الكتاب - يوزّعان المسؤوليات بين السلطات ويحدّدان الصلاحيات والمهمات لكل مسؤول في أي موقع كان، من أجل التكامل في ما بينهم ليؤدوا أدوارهم للصالح العام قبل البحث في أي معادلة أخرى. فهم مقتنعون حتى العظم بأنّ هذه المعادلة ليست قائمة في لبنان، وأنّ البلد يعيش في نظام آخر ومحكوم بآليّات أخرى بعيدة كل البعد عن منطق القانون والدستور، على رغم وجود مَن أقسم على حماية الدستور وتطبيقه ووجود سلطات تتعاطى في ما بينها، وفق ما يقول كلّ منهما.

ويعتقد هؤلاء صادقين انّ البلد محكوم بالتسويات وبقوة الأمر الواقع، لا بقوة الدستور والقانون. ويتمّ ذلك بواسطة منظومة تمتلك كل الصلاحيات لتقديم الفتاوى الدستورية والقانونية غبّ الطلب، لتغليف ما هو مُرتكب من مخالفات وأخطاء يُقارب بعضها الجرائم في حق القانون والدستور والنظام وكل ما يمتّ إليها بصِلة. مع الاعتراف بأنّ المسؤولين نجحوا في توصيفها واختصارها بكلمتين «الديموقراطية التوافقية»، من دون النظر الى ما يُرتَكب من كبائر في ظل هذه المعادلة وما وَفّرته من حمايات غير قانونية.

لا تتسِع مجموعة من الصفحات للتعبير عن الأسباب الموجبة التي تقود الى هذه القراءة، فاللبنانيون يدركون هذه الحقائق في قرارة أنفسهم، ولكنهم عاجزون بالحد الأقصى أو لا يريدون القيام بما هو مطلوب منهم بالحد الأدنى لتغيير هذا الواقع. مع الخوف أنّ أي محاولة من هذا النوع ستلقى مصير سابقاتها في ما يؤدي الى تعطيلها وإنهاء مفاعيلها، بفِعل ما لدى أهل الحكم والحكومة من قدرة تمكّنهم من تعطيلها، إن عبر المؤسسات أو من خارجها عبر التسويات في ما بينهم.

وقبل الغوص في الكثير من النظريات، يتوقف أحد كبار الدستوريين أمام ما يجري في لبنان قبل 17 تشرين الأول الماضي، تاريخ الانتفاضة الشعبية الحديثة، وفيها وما بعدها، فيرى أنه من غير المنطق تَجاهل ما فعلته في اللبنانيين وما غَيّرته في ذهنية تُنبىء بإمكان الانتقال الى مرحلة بناء الدولة وإقفال الدويلات، واستعادة النظام، ووقف أدوار سلطات الأمر الواقع، وتطبيق القوانين بتجرّد، كما تقول. وهو ما يفسّر طريقة رَد بعض السلطة عليها بالسعي الى تشويهها، وإلصاق أقذر التهم بحق المشاركين فيها، باستثناء العمالة لإسرائيل والخيانة العظمى، تمهيداً لتفكيكها بما يؤمّن تطبيق القوانين لاحقاً على «الضعفاء» المُعدمين وإنقاذ «الأقوياء» من براثنها.

فبدل اللجوء الى القانون والدستور لمعالجة الوضع - يقول الخبراء الدستوريون - لجأ المسؤولون الى الشوارع والساحات لنَصبها في مواجهة بعضها بعضاً، علماً أنّ مجرد المقارنة لا تجوز، لا في الشكل ولا في المضمون ولا في الأهداف. فبعيداً من منطق الساحات والشوارع، في الدستور مواد قالت ما يؤدي الى معالجة هذا الوضع أيّاً تكن الحقائق التي أفرزتها. فهو الذي ضَمِنَ حرية التظاهر والمطالبة لإسقاط الحكومة مثلاً، وهو ما حصل أخيراً، ولكنه في الوقت عينه شرحَ بالتفصيل كيف يمكن معالجة الوضع والخروج من أزمة التكليف تمهيداً لولوج مرحلة التأليف.

وأمام هذه المعادلة، يبقى على المسؤول المعنيّ أن يستخدم الدستور بالطريقة التي تضمن احترامه من دون التوسّع في البحث عن آليّات تُبعِد ما هو واجب القيام به واللجوء الى ما يشكّل خروجاً على منطقه، وأخطرها ما يمكن الإشارة إليه بتظهير شارع في مقابل شارع أو استنساخ تجربة «غَزوة» ساحتَي رياض الصلح وساحة الشهداء، حيث يمكن أن يقوم به هؤلاء الغُزاة الذين عبّروا عن الخشية مما يُدبِّر لهم الشارع مستقبلاً، بعدما شهدوا على خروق كبيرة في البيئة الحامية لهم.

ولذلك، فإنّ ما حصل من خروج عن الآليّات الدستورية الذي يَستفزّ الشارع المُنتفِض، والترَيّث في الإقدام على ما يجب القيام به، لا يبرّره سوى الخوف مما هو آتٍ. فما يُطالب به الشارع لا يريده بعض الأطراف الذين عبّروا صراحة عن تمسّكهم بالحكومة من دون أن يعبأوا بما عَبّر عنه المنتفضون، يقيناً منهم أنّ بإمكان الجيش اللبناني ضرب قسم من اللبنانيين في ما هم يتولّون - كقوى أمر واقع - معالجة باقي الساحات المُنتفضة. فالتجارب التي شهدتها القرى الجنوبية وبعض مناطق البقاع الشمالي، خَير دليل على التناغم بين بعض الحكم وهذه القوى.

وعليه، يؤكد الخبراء الدستوريون أنّ كل ما يجري لا يحتمل سوى تفسير واحد، فحتى هذه اللحظة ما زال الدستور من ضحايا الساحات والشوارع طالما أنه لم يتم اللجوء الى ما يقول به. فالسعي الى تشكيل الحكومة قبل تكليف من يؤلّفها، يكفي ليبقى الدستور معلّقاً على الرف.