ينبغي التساؤل كيف تمكن البغدادي من اختراق مناطق نفوذ النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية ليصل إلى منطقة تخضع للنفوذ التركي؟
 

تمثل تصفية زعيم أو متزعم تنظيم أبي بكر البغدادي، ضربة قاصمة لجماعة إرهابية عابرة للحدود عاثت في الأرض قتلا وتوحشا وفسادا. وتشبه هذه الضربة عملية اغتيال أسامة بن لادن التي تأخرت أكثر، لكنها لم تصب تنظيم القاعدة بمقتل، واستمر أيمن الظواهري على رأسه مع تحريك شبكته حول العالم.

تزامنا مع الهجوم التركي شمال سوريا والتخبط الذي أثاره القرار الأميركي بالانسحاب من سوريا، هلل دونالد ترامب لمكسب ملموس في سياسته الخارجية ولأحد أبرز الإنجازات على صعيد مكافحة الإرهاب، بعد سنتين على سقوط الموصل والرقة عاصمتي “الخلافة المزعومة”.

لكن هذا الحدث لا يعني نهاية التنظيم وامتداداته وفكره الظلامي المنحرف باسم الدين والخارج عن كل المعايير والقيم الإنسانية، من أجل كسب الرهان على مدى طويل، لا بد من مراجعة مناهج واستراتيجيات الحرب على كل أنواع الإرهاب ومصادره وعدم حصره بمنطقة أو خلطه بدين، مع التنبه للمعركة الفكرية وللجذور والأزمات المزمنة وبناء الدول العادلة والتنمية فيها. 

يتوافق الخبراء والمتابعون لشؤون تنظيمات الإرهاب على أنه مع وجود البغدادي أو عدمه، تظل الشبكة الجهادية نشطة من إندونيسيا إلى نيجيريا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ولاتزال لديها القدرة على تنظيم هجمات في جميع أنحاء الغرب.

لا شك أن القضاء على أبي بكر البغدادي، الذي توهم صيف 2014 أنه يعيد التاريخ إلى الوراء انطلاقا من الموصل، يمثل النهاية الثانية لتنظيم داعش. لكن ينبغي عدم الصراخ بالنصر، ليس فقط بسبب وجود نحو 20 ألف من عناصر التنظيم المنتشرين والهاربين والمطاردين بين سوريا والعراق، إضافة إلى مقاتليه في باقي “الولايات”، بل أيضا بسبب تسرب ونفاد وتمركز أيديولوجية داعش في رؤوس الآلاف من المتعاطفين معه حول العالم، الذين يمجدون من يعتبرونه شهيدهم.

ويخشى العديد من المراقبين أن يتحول البغدادي، بنظر البعض، إلى أسطورة لدوره في “إحياء” الجهاد وجذب الآلاف من الشباب الذين غادروا بلدانهم للانضمام إلى “الخلافة”، لأن إبراهيم البدري السامرائي (أبوبكر البغدادي) تمكن بطريقة ما من إعادة الخلافة، التي اختفت منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية عام 1923.

لقد تمّ القضاء على البغدادي والمتحدث باسم التنظيم “أبي الحسن المهاجر” وتصفية الكثيرين من قيادات التنظيم وفق خطة من التحالف الدولي، للتخلص من كل الرموز القادرة على الاستمرارية، وتحريك جماعات تدين بالولاء لداعش، وموجودة محليا في أربعين دولة.

مثلما تضاءل وتهاوى نفوذ القاعدة منذ هزيمتها في أفغانستان وتصفية بن لادن، من المتوقع أن يشهد تنظيم داعش مصيرا مماثلا لناحية تشتته وتشرذمه بعد نهاية سيطرته على الأرض، وبعد مقتل الكثير من كوادره وتحول مغامرته إلى تغول وجنون دموي في قتل المسلمين، الذين تم تكفيرهم وتشريع قتلهم، والقتل الجماعي للإيزيديين وحرق الأسرى في الأقفاص وذبح الضحايا وقطع الرؤوس بوحشية لا سابق لها.

إنه الحصاد الأسود لتنظيم نشأ عمليا من رحم فكر إقصائي وتوتاليتاري، ومن تتمات الدخول الأميركي إلى العراق، وانهيار الدول من العراق إلى سوريا.

يصر البعض على نظرية المؤامرة في تكوين داعش وفي نهاية زعيمه، لكن مما لا شك فيه أن التنظيم كيان قائم بذاته، ربما استفاد من ظروف وتقاطعات وتلاعب أو من تمويل صناعة الإرهاب.

وفي هذا الصدد، مثلما نشأ تنظيم القاعدة كتتمة لقطيعة بين الجهاديين وواشنطن بعد “الجهاد الأفغاني”، نشأ تنظيم داعش بعد الانسحاب الأميركي من العراق ووقف تمويل الصحوات العشائرية هناك.

وحسب أكثر من شاهد ومتابع داخل العراق وسوريا، يتبين أن الأنظمة المدافعة عن الوضع القائم، وخاصة في دمشق، حاولت من خلال نشأة تنظيمي النصرة وداعش، تبرير استمرارها تحت عنوان الحاجة إليها لمكافحة الإرهاب، وكل ذلك كان مبررا لتدخلات أجنبية وتحالفات دولية تحت هذا الستار.

لا يمكن للمراقب الحيادي عدم التنبه لمسار البغدادي، الذي خرج من سجن أميركي بجوار البصرة في عام 2006 قبل تدرجه في سلك الإرهاب. ولا يمكن عدم ملاحظة مدى استفادة طهران من نشأة داعش لتبرير توسيع دائرة نفوذها تحت غطاء الحرب على الإرهاب.

وهذا بالطبع لا يعني تجاهل الكثير من الأدوار الأخرى، خاصة الممر التركي وسهولة مغادرة المقاتلين الأجانب لبلادهم ووصولهم إلى سوريا. والمريب في التطورات الأخيرة، اكتشاف مخبأ البغدادي في باريشا (شمال غرب سوريا)، في محافظة إدلب بالقرب من الحدود التركية.

وهنا ينبغي التساؤل كيف تمكن البغدادي من اختراق المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري ورعاته والمناطق التي بعهدة قوات سوريا الديمقراطية ليصل إلى معقل تنظيمات “حراس الدين” و”النصرة” في منطقة تخضع للنفوذ التركي؟ ربما أراد البعض من وجوده هناك مبررا للهجوم على إدلب وإنهاء المعركة هناك، وربما كان مخبؤه مؤقتا بانتظار نقله للعب أدوار مشبوهة أخرى.  

وحسب مصادر أوروبية، فإنه رغم تعميم ترامب شكره على عدة أطراف، كان الدور الأساسي لوحدات الحماية الكردية في إسناد القوات الخاصة الأميركية لوجستيا واستخباراتيا. كما قام جهاز المخابرات العراقية بدور مهم من خلال تأكيد المعلومات وتقاطعها.

لكن مصدرا كرديا سوريا يقول إن “هذا النصر له طعم المرارة بعد توافقات أنقرة مع واشنطن وموسكو على حساب الأكراد”، مشيرا إلى أن قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الحماية الكردية، ضحت بحوالي عشرة آلاف شخص في مواجهة داعش.

في عام 2006 سقط أبومصعب الزرقاوي أحد أقطاب الرعب، والآن سقط خلفه أبوبكر البغدادي، الذي قلده وذهب أبعد في ممارساته وكانت نهايتهما متشابهة. لكن اللافت أن نهاية الزرقاوي تزامنت مع بدء خروج العراق من مواجهات أهلية دامية على وقع مقاومة الوجود الأميركي، بينما تتزامن عملية قتل البغدادي مع تحريك خرائط النفوذ في الشمال السوري.

هكذا انتهت ورقة البغدادي وأعلن مجلس شورى التنظيم مبايعة أبي إبراهيم الهاشمي القرشي زعيما جديدا للتنظيم. والأرجح أن هذا الاسم حركي ويعود إلى عمر قرداش المكنى “أبوعمر التركماني”، وهو عراقي شغل منصب مسؤول ديوان الأمن في تنظيم مولع بالبيروقراطية، عكس تنظيم القاعدة، ولذلك من شبه المؤكد أن داعش يمتلك سلسلة خلافة واضحة مجهزة تحسبا لموت الزعيم. ومن المحتمل، أن يكون إنجاز عملية الخلافة بهده السرعة نذير شر بعمليات انتقام وإعادة انتشار.

 من وجهة نظر ضحايا داعش من المشرق وحول العالم، ساد الابتهاج والارتياح بعد القضاء على البغدادي، لكن المعركة ضد الإرهاب تتطلب النفس الطويل.

غياب الاستقرار المستمر في العراق وسوريا وتشتت الانتباه وعدم السيطرة على مساحات بالغة الاتساع، خاصة في المناطق الصحراوية، في وقت لا يملك فيه النظام السوري الموارد أو القدرات اللازمة للتصدي لداعش بصورة حقيقية، يمكن أن يتيح له إعادة التنظيم. والأخطر يتمثل في عدم كسب معركة الأفكار العالمية ضد دعاية داعش والقاعدة. وما يثير كل القلق اتخاذ “الجهاد” صبغات وألوان محلية من أفريقيا إلى آسيا.

لا يمثل مصرع البغدادي إلا محطة في مواجهة آفة الإرهاب، والمطلوب، أكثر من أي وقت مضى، عدم استخدام الإرهاب وسيلة لتشويه الإسلام وتمزيق العالم العربي. والأهم من ذلك مراجعة الاستراتيجيات والمقاربات لتكون أكثر فعالية وشمولا مع استيعاب موجبات المواجهات غير المتكافئة واستهداف وعزل رعاة صناعة وتحريك الإرهاب.