نظرية المؤامرة لم تعد تقنع الإيرانيين، حتى أولئك الذين ما زالوا يدينون بالولاء للولي الفقيه.
 
سلّط مراقبون المجهر على الارتباك الذي أظهرته المنظومات الإقليمية المنضوية تحت قيادة إيران في مقاربة الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان. فقد كان لافتا مواقف الفعل العدائية التي أظهرتها إيران وأحزابها التابعة في البلدين من الاحتجاجات.
 
أفصحت هذه الأطراف عن موقفها الرافض بشكل واضح. وكشفت أنها هذه المرة لا تحتاج إلى ركوب الموجات الجماهيرية وإدعاء تبنّيها لشعارات الشارعيْن العراقي واللبناني؛ وهو أمر لم يكن ممكنا القيام به هذه المرة لأنها أساسا المنظومة التي قام ضدها الشارع.
 
أدركت طهران أن الاحتجاجات التي اندلعت في لبنان، وتلك التي اندلعت قبل ذلك في العراق، وتطورت في انتشارها وزخمها، تحمل في دينامياتها الداخلية عداء للمنظومات السياسية التي تحكم البلدين وتشرف طهران على التحكم بها.
 
ورأى باحثون في الشؤون الإيرانية أن تجاوز التحركات الشعبية للأحزاب المعروفة حتى تلك التي تناهض التيارات الموالية لإيران، جعل من التعامل مع حركة الشارع أمرا صعبا كونه غير خاضع لسياسة الترغيب والترهيب التي لطالما انتهجتها إيران في التعامل مع كافة القوى السياسية في البلدين.
 
ولفت مراقبون إلى الطابع الشيعي الذي يميز الحراك في العراق على نحو يحول الصراع إلى وجه داخلي يجري داخل البيت الشيعي، بما يحرم الأحزاب الموالية لإيران من اللجوء إلى أدوات الفتنة والاستعانة بالتاريخ القديم والعودة إلى مظلومية الشيعة القديمة منذ مقتل الحسين بن علي في كربلاء.
 
مخاوف من انتقال عدوى العراق ولبنان إلى إيران، خصوصا وأن الأخيرة كانت سبّاقة في الثورة على نظام الحكم
 
وذكّر هؤلاء بخطاب رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي حين تحدث عام 2014 عن أن المعركة في الأنبار هي بين جند الحسين وجند يزيد، كما بالأجواء التي حضنت قيام الحشد الشعبي بناء على فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني فهم منها نداء لحماية الشيعة من خطر يمثله إرهاب السنة.
 
ويستهدف الخطاب الإيراني المنتقد للحراك الشعبي في العراق ولبنان تأثيم الأمر بصفته رجسا مشبوها يتبع السفارات وينفذ أجندات أجنبية، وبالتالي تخوين المشاركين في هذه الاحتجاجات تمهيدا للتعامل معهم وفق هذا المفهوم.
 
ويذكّر المتابعون أن الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت العشرات من المدن الإيرانية قبل انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي، وفرض الولايات المتحدة عقوبات خرجت من مناطق ومدن محسوبة على التيار المحافظ داخل مشهد السلطة الحاكمة في إيران، وأن الأمر أقلق النظام السياسي ودفع حتى التيار الإصلاحي للانضمام إلى التيار المتشدد في نعت المتظاهرين بالغوغاء الخارجين عن القانون واتهامهم بتنفيذ أجندات أجنبية مشبوهة تستهدف الجمهورية الإسلامية.
 
وتقول مصادر شيعية مشاركة في احتجاجات لبنان إن إيران وحزب الله يسعيان إلى “تطهير” الحراك اللبناني من المشاركة الشيعية الواسعة التي شملت مناطق ومدنا وقرى في جنوب لبنان والبقاع، وإن خطاب التخوين الذي أطلقه أمين عام حزب الله حسن نصرالله جرى رفده بالتوصيفات التي أطلقها مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي على احتجاجات العراق ولبنان، كما جرى محضها بشرعية لمواجهة هاتين الانتفاضتين تأخذ بعدا فقهيا كونها صادرة عن الولي الفقيه.
 
غير أن بعض المصادر الدبلوماسية تشكك في إمكانية نجاح طهران في إقناع جمهورها قبل إقناع الآخرين بنظرية المؤامرة التي تسعى إلى الترويج لها.
 
وتقول المصادر إن الناس في العراق ولبنان يعرفون بعضهم البعض، ويتعارفون كل يوم داخل الساحات بما يزيل أي شك في حيثيات خروج الاحتجاجات وأجنداتها. يضع هذا الواقع بكل تفاصيله، النظام الإيراني أمام معضلة وجودية، حتى أن خامنئي اضطر شخصيا إلى الخروج بموقف علني مما يجري داخل ساحات النفوذ في العراق بسبب تقارير مقلقة تحذّر من سقوط ورقة البلدين من يد إيران عشية مدّ طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة لمناقشة ملفات عديدة من ضمنها ملف نفوذ طهران في الشرق الأوسط.
 
وتؤكد مصادر إيرانية معارضة أن المرشد الأعلى يخشى من انتقال عدوى العراق ولبنان إلى إيران، خصوصا وأن الأخيرة كانت سبّاقة في الثورة على نظام الحكم، وأن المدن الإيرانية سبق أن اجتاحت الشوارع مطالبة بما يطالب به المنتفضون في العراق ولبنان.
 
وعظّمت الضغوط الهائلة التي تتسبب بها العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران من حجم وثقل وخطورة الأزمة المعيشية في البلد، الأمر الذي يجعل خروج الناس إلى الشوارع مسألة وقت تتحين لحظة معينة تحاول طهران تأجيلها والوقاية من ظهورها.
 
وتخشى بعض الأوساط من أن كلمة السر التي أعطاها خامنئي لـ”الحريصين” في العراق ولبنان لإنهاء الاحتجاجات، هدفها تفجير الأوضاع خارج الحدود الإيرانية، داخل ميادين النفوذ في البلدين، لرد موجات العدوى الحتمية التي ستنتقل عاجلا أم آجلا إلى داخل إيران نفسها.
 
وتعكس نظرية المؤامرة التي يروجها خامنئي العقم الذي وصل إليها نظام طهران في إنتاج خطاب نظري مواكب للتطورات في العالم. كما يكشف لجوء خامنئي لإعادة استخدام بضاعة “المؤامرة” يكشف عجزا عن إنتاج بضاعة حديثة، كما العجز الكبير عن فهم ما استجدّ واستحدث في العراق ولبنان عن عدم رؤية التحولات الجيلية الكبرى التي جرت في المنطقة، على نحو لم يعد حراك العراقيين واللبنانيين يفهم اللغة التي يستخدمها خامنئي والأبجديات التي يدلي بها زعماء الأحزاب الموالية له في العراق ولبنان، وأنه سيكتشف يوما أن نظرية المؤامرة لم تعد تقنع الإيرانيين أنفسهم، حتى أولئك الذين ما زالوا يدينون بالولاء للولي الفقيه.