تبدو إيران مستشرسة بالدم في الدفاع عن مكتسبها العراق، تاركة للقمصان السود المشاغبة بسوقية مقرفة على حراك عابر للطوائف في لبنان مخترق للبيئة المفترض أنها حليفة لإيران. طهران تشعر بقلق يضاهي وربما يزيد عن أمر العقوبات.
 

شيء طارئ حصل في لبنان والعراق أربك كل الخرائط التي كانت تُرسم في الكواليس من أجل تعبيد الطريق باتجاه طاولة حوار تبني اللبنات الأولى لاتفاق جديد مع إيران. حظيت الورشة التي تبرّع رئيس وزراء باكستان، عمران خان، في تمثيلها بتواطؤ إقليمي دولي. بدا أن العواصم آثرت الصمت وترك المداولات الخلفية تعمل دون أي تورط رسمي في المآلات التي ستصل إليها.

بقيت واشنطن تتحدث عن ضغوط قصوى من أجل مفاوضات مقبلة تفضي إلى إنتاج اتفاق جديد. امتنعت السعودية عن توجيه اتهام رسمي لإيران في الوقوف وراء الاعتداءات على منشآت أرامكو على أراضيها قبل أن ينتهي التحقيق الدولي من إعلان نتائجه. روجت طهران لزيارات تقوم بها وفود إماراتية، فيما، وبقدرة قادر، توقفت منابر إيران عن شتم الرياض ودول الخليج، تاركة للرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف نظمَ قصائد حول خصال الحوار، والإفاضة في مدح السلم والتعاون بين دول المنطقة.

في روحية الانجراف نحو خيار الحوار ما قيل إنه قناعات دولية، صدر أهمها من واشنطن وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول عدمية شنّ حرب ضد إيران.

جاء أيضا أن مأزق الحرب في اليمن أنضج توجها دوليا إقليميا للبحث عن منافذ للحل تتجاوز قواعد الحرب الدائرة منذ سنوات.

في ذلك أيضا أن ما تمتلكه إيران من نفوذ في العراق بات من التماسك بحيث لا ينافسه نفوذ مرتجل يسعى العرب إلى تجريبه هناك، وأن ما تمتلكه طهران من نفوذ في لبنان يستدعي مقاربة جديدة غير تلك المعتمدة.

لاح يأس من سياسة العقوبات والعزل، أو التعويل على تحولات شعبية داخل إيران أملا في إحداث تحولات لتدجين قرارات النظام.

وفق تلك المعطيات بنتْ واشنطن والعواصم المعنية مشروع الاتفاق الجديد المؤمّل أن يتم الاهتداء إليه. لكن تطورات قلبت تلك القراءة البليدة.

أربك الحراك الشعبي في لبنان والعراق كل الأوراق التي تمتلكها إيران في البلدين، والتي وجب أن تحتفظ بها، وألا تقدم أي تنازلات بشأنها إلا على طاولة المفاوضات.

ووفق الثابت في ما استنتجه العالم من نفوذ تمتلكه إيران في الشرق الأوسط، لم تدفع واشنطن وحلفاؤها بأي موقف يُشتمُّ منه دعم للمتظاهرين في العراق، أو أولئك المنتفضين في لبنان والمنتشرين من شمال البلد إلى شماله.

تعتبر الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أن ما يجري في العراق هو شأن إيراني داخلي. الغضب في العراق يأخذ طابعا شيعيا، يكاد يكون حصريا، ضد المنظومة السياسية التي تهيمن عليها أحزاب السلطة الموالية لطهران.

لا تعوّل العواصم الغربية على أي تغيير يمكن لـ”شارعٍ” أن يُحدثه  في العراق داخل طبيعة العملية السياسية التي تديرها طهران منذ الغزو الأميركي لهذا البلد عام 2003. والأصح أن هذه الدول لا تحبّذ حدوث أي تغيير جذري يستدعي إعادة تموضع مكلفة ومرهقة تجاه بلد اعتادوا، من البوابة الإيرانية، مقاربته وإجادة التعامل مع مفاتيحه.

سكت العالم على نحو مريب حيال الحراك الشعبي الذي يجتاح لبنان هذه الأيام منذ 17 أكتوبر الماضي.

 

ثرثرت العواصم الكبرى كثيرا حين خرج اللبنانيون في 14 مارس 2005 مطالبين بخروج القوات السورية من لبنان. حينها ظهر تحالف “14 آذار” ينادي بلبنان سيدا مستقلا، مبشرا بالخروج من عصر الوصاية السورية الذي حكم البلد برعاية دولية منذ عام 1976. سحبت دمشق جندها. هلل العالم لهذه الخطوة، ثم صمت وأصابه شلل، حين راحت موجة الاغتيالات تزيل قادة الحراك السيادي، وحين اجتاحت قوات حزب الله العاصمة والجبل في ما أطلق عليه “غزوة 7 أيار”.

هذه المرة لم تقل العواصم كلمتها في حدث تاريخي لم يسبق له مثيل منذ استقلال لبنان. لم يطلب المنتفضون رعاية دولية، وربما أنهم لا يثقون أصلا بأي رعاية مزعومة تدير الظهر خدمة للمصالح العليا.

قيل إن انخراط الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في ورشة التحضير للاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، دفع واشنطن لترك لبنان لحزب الله، والتخلي عمن اتهموا بأنهم حلفاء واشنطن في لبنان لمواجهة مصيرهم الأسود. وما يقال هذه الأيام إن تلك المداولات الخلفية التي تحيك نسيج اتفاق جديد بين واشنطن وطهران، قد يكون سببا لعدم إعارة كثير اهتمام لشأن لبناني قد يُدرجُ أيضا في خانة الشأن الداخلي لإيران.

بيْدَ أن الشعوب ترسم الخرائط. والأمر ليس مقولة رومانسية بقدر ما هو حقيقة ترتبك واشنطن وباريس ولندن وبرلين تجاهها، قبل أن ترتبك طهران. وفيما قد تعتبر العواصم أن شؤون العراق ولبنان هي شؤون إيرانية تقاربها طهران، تُظهر الأخيرة وفق تلك المسلّمة الخبيثة، عزما على عدم إسقاط هذا المكتسب المعترف به ضمنا لدى دول العالم.

تعرف إيران أن أي اتفاق جديد مع العالم سيسلّط المجهر على ملفات أخرى تتجاوز ملف البرنامج النووي.

تعرف أن الضغوط التاريخية التي تمارسها الولايات المتحدة، وبصمت يشبه الرضا من قبل دول يفترض أنها صديقة مثل الصين وروسيا، سيجبرها على خسارة كثير من المساحات داخل خارطة النفوذ التي تمتلكها في المنطقة.

حين زار رئيس وزراء باكستان طهران صدر عن المرشد علي خامنئي، كما عن بقية المنابر القيادية، ما يفهم أن طهران ترى أن في اليمن مفتاح الحل الشامل. وفي ذلك أن إيران تلوّح بمقايضة اليمن بالتسليم بنفوذها في مناطق أخرى.

لا تسمح إيران بالمسّ بمكتسبها الكبير في العراق. العراق بوابة إيران الكبرى، وسقوط العراق وسحبه من منظومة نفوذها هو سقوط للنظام الإيراني برمته.

لن تتخلى إيران عن نفوذها في العراق، وهي التي قال أحد منابرها يوما إنها أصبحت إمبراطورية عاصمتها بغداد. تعتبر طهران أن العراق خارج ملفات أي حوار بينها وبين واشنطن، وهي لن تتخلى للعراقيين عما قدمته الولايات المتحدة لها لحظة إسقاط نظام صدام الحسين، وهي لن تتهاون في نصر حققته على العراق بعد هزيمتها في الحرب ضده قبل 15 عاما.

بيد أن لبنان أكثر تعقيدا بالنسبة لطهران. يحظى البلد باهتمام دولي عام لا يسلّم بوصاية طهران على قراره. ثم إن تعددية هذا البلد الطائفية تجعله لقمة يصعب هضمها داخل أدبيات السياسة في دولة الولي الفقيه وفي أبجديات العلاقات الدولية.

ويتضح أن مستقبل نفوذ إيران في سوريا محدود الطموح، ولن يتجاوز القواعد التي تضعها روسيا بالتواطؤ الكامل مع العواصم الغربية.

قد تكشف سلة التفاهمات التي تُعدّ أن لبنان هو شأن يهمّ حزب الله أكثر من كونه قيمة حياة أو موت بالنسبة لإيران. والأرجح أن طهران تسعى لأن يقبل بها شريكة داخل الفسيفساء اللبناني، ذلك أنها لا تستطيع ومن غير المسموح لها، محليا وإقليميا ودوليا، أن تحكم البلد من خلال حزب الله في لبنان.

على هذا تبدو إيران مستشرسة بالدم في الدفاع عن مكتسبها العراق، تاركة للقمصان السود المشاغبة بسوقية مقرفة على حراك عابر للطوائف في لبنان مخترق للبيئة المفترض أنها حليفة لإيران.

طهران تشعر بقلق يضاهي وربما يزيد عن أمر العقوبات. ولا عجب أن تدفع إيران بمرشدها ليقتحم بيوت العراقيين واللبنانيين ويقول “الأمر لي”.