يقول غاندي: «الثورة اللاعنفيّة ليست برنامـجاً للإستيلاء على السلطة، بل هي برنامج للتـحوّل فـي العلاقات، وتنتهي بالإنتقال السلميّ للسلطة». فالثورة ما هي إلاّ ردود أفعال الأفراد والـجماعات على الأحوال غيـر الـمرضية فـي حياتـهم الإجتماعية عامةً، وهي لا تولد بيـن ليلة وضحاها، بل تأتـي نتيجة تراكُم أحداث تسبق حدث الذروة الـمُتمثِّل فـي إندلاعها. لذلك، فإنـّها تطمح إلى إعادة بناء وتنظيـم النظام الإجتماعي كله تنظيماً وبناءً جديداً.

لـم يعرف تاريـخ لبنان ثورة ذات بُـعـد إجتـماعي، سوى ثورة طانيوس شاهيـن ضدّ الـمشايـخ الإقطاعيّـيـن من آل الـخازن وآل حبيش فـي كسروان، منتصف القرن التاسع عشر. وكان لبنان فـي حينه، وقبل أن يضمّ الـجنـرال غورو إليه الأقضية السبعة، لا تزيد مساحته على 4500 كلم مربع. إندلعت الثورة ضدّ الـمشايـخ نتيجة الظلم الذي أذاقوه للعامة والفلّاحيـن، وبسبب الـمصاعب الإقتصادية والفقر والنقص فـي توفّر الأراضي.

منذ 1859 وحتـى 16 تشرين الأول 2019، لـم يشهد لبنان ثورات إجتـماعية، بل شهدَ حروباً أهليّة فـي العاميـن 1841 و1860 بيـن الدروز والـموارنة، فـي ظلّ الـحكْم العثمانـي الـمريض، وفـي العاميـن 1958 و1975 بيـن الـمسيحيّـيـن والـمسلميـن، فـي ظلّ الـميثاق الوطنـي «الطائفي» الذي إتفق عليه اللبنانيون عام 1943.

لا شكّ في أنّ الـحرب الأهليّة الأخيـرة التـي إندلعت عام 1975، واستـمرّت خـمسة عشر عاماً، وكلّفت لبنان أكثـر من 200 ألف قتيل وجريـح، وخسائر بـمليارات الدولارات، كان الوجود الفلسطيـنـي الـمسلّح سبباً وحجّة لتسريع إشتعالـها، كان ظاهرها بيـن اليـميـن ذي الطابع الـمسيحي، واليسار الذي إحتضن الـمقاومة الفلسطينية وتـحالف معها، وباطنها الغليان الطائفي.

بالإضافة إلى الـحوادث والـحروب الأهليّة، شهدَ لبنان أيضاً ثلاث مـحاولات إنقلابية فاشلة، إثنتان منها عسكريتان. ففي صيف عام 1949 شهدَ لبنان أول مـحاولة إنقلاب نفّذها الـحزب السوري القومي الإجتـماعي. فشل الإنقلاب وأُعدم زعيـم الـحزب أنطون سعاده.

أمّا مـحاولة الإنقلاب الثانية، فـحصلت ليلة 31 كانون الأول 1961، إثـر إقدام وحدات من الـجيش، بقيادة ضباط من الـحزب السوري القومي الإجتـماعي، على إحتلال وزارة الدفاع وخطف عدد كبيـر من الضباط، وفشلت الـمحاولة، واعتُقل الإنقلابـيـون. وفـي 11 آذار 1976، قام العميد الركن عزيز الأحدب بانقلاب عسكري، بـما عُرف يومـها بـ«حرب الثكنات»، لكنّ الـمحاولة أخفقت، وتـجدّدت الإشتباكات بيـن أطراف النـزاع.

قبل 17 تشرين الأول 2019، كانت الطائفة حزباً سياسياً، وكان اللبنانـي أسيـر طائفته على نـحو كامل، والإنقسام الـمذهبـي على أشدّه، حتـى بات الإنتماء إلى الطائفة أولويّة، ويأتـي الوطن فـي الـمرتبة الثانية.

صحيح أنّ الصراع فـي لبنان له وجهـه السياسي، لكن الزعماء السياسيّـيـن يستـخدمون الطائفية من ألفها إلى يائـها.

فـي 17 تشرين الأول، لبنان أبـهر العالـم بـتظاهرات سلميّة وراقية، وتـحوّل فـجأةً من بلد الطوائف إلى بلد العقول والأفئدة، وللمرة الاولى فـي تاريـخه، نـزل «شعب لبنان العظيـم» إلى الشوارع والساحات، متـجاوزاً الإعتبارات الطائفية والـمذهبية والـمناطقية والـحزبية من أجل لبنان أفضل، ومن أجل العبور إلى دولة مدنيّة وعصريّة.

قد تكون «ثورة 17 تشرين الأول» من أعظم الثورات فـي تاريخ البشريّة، إذ أنّ الشعب الذي قام بـها، هو شعب أعزل، وقفَ بقوّة وإيـمان بوجه فريق مدجّج بالسلاح، يصرّ على بقاء سلطة فاسدة تأتـمر بأوامره.

إنـّها ثورة شعب مقهور ومذلول ومنهوب، ثورة شعب جائع ومريض وعاطل من العمل، ثورة شعب إنتفض على الظلم والـهيمنة وتقاسُـم الـحصص والـمغانـم والتعيـينات، ثورة شعب إنتفض على زعمائه ومسؤوليه الذيـن تركوه فريسة الـجوع والـمرض والـخوف والذلّ أمام الـمدارس والـمستشفيات والأفران ومـحطات الوقود... وراحوا يتلهّون بالـمُناكفات والـمُشاكسات والـخطابات الشعبويّة الفارغة، وبنفخ أحجامـهم وزيادة عدد أزلامهم بالضرب على الوتـر الطائفي والـمذهبـي البغيض.

إنـّها ثورة على الذيـن وعدوا الناس بالإصلاح والتـغيـيـر، فتناسوا الإصلاح وتناسوا الوعود، وغضّوا الطرف عن الفاسديـن والسارقيـن، وتشاركوا معهم فـي النـهب والـمُحاصصَة، وحمّلوا الآخرين المسؤولية عن فشلهم وفسادهم وتقاعسهم.

إنـّها ثورة على الفساد الذي عشّشَ فـي كل مفاصل الدولة، وعلى كل مواطن ومسؤول وحاكِم سرق أموال الدولة والشعب، ليتنعّم بـمسروقاته وعقاراته وسياراته ومُقـتـنـيـاته.

هذه الثورة الـمباركة هي الأمل الوحيد الذي يعوّل عليه «شعب لبنان العظيـم» لبناء دولة سيّدة حرّة مستقلّة، لا سلاح غيـر سلاحـها، ولا سلطة غيـر سلطتـها، دولة آمنة ومستـقرّة وخالية من الفساد والفاسديـن.