لائحة المرشحين لتولّي رئاسة الحكومة الجديدة، بعد استقالة الرئيس سعد الحريري، تطول حيناً وتقتصر أحياناً، لكنّ الاتصالات الجارية لاختيار واحد من هذه اللائحة لم ترسُ على اسم محدد بعد.
 

يقول البعض انّ الرئيس العتيد للحكومة العتيدة يفترض ان يكون هذه المرة من «طبيعة المرحلة» التي دخلتها البلاد، نتيجة الحراك الشعبي المستمر لليوم الخامس عشر على التوالي، والناقِم على السلطة وكل الطبقة السياسية، ضاغطاً في اتجاه تغيير يعتقد أنه ينقذ البلاد من أزمتها الاقتصادية والمالية، ويفتح الباب أمام تغيير في الطبقة السياسية تؤمّنه انتخابات نيابية مبكرة تجريها حكومة جديدة (يريدونها انتقالية) في ربيع 2020، بموجب قانون انتخاب جديد على أساس النظام النسبي ويعتمد لبنان دائرة انتخابية.

لكنّ المتابعين لمسار الاوضاع قبل الاستقالة وبعدها، يقرأون في الأفق مؤشرات الى انّ تأليف حكومة جديدة لن يكون متيسّراً سريعاً، اذا لم يتحَسّس الجميع خطورة الازمة الاقتصادية والمالية التي تفرض الاسراع في استيلاد فريق حكومي، لتلافي الانهيار الذي يحذّر منه الجميع.

لم يخرج المسؤولون والقوى السياسية بعد من نطاق التفتيش عن خلفيات استقالة الحريري، التي يقول بعضهم إنها لم تكن واردة لديه حتى ساعات قليلة من الاعلان عنها، فلا رئيس الجمهورية ولا رئيس مجلس النواب كانا يتوقعانها، وكذلك «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وبقية حلفائهما. فقط رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط كان يتوقّعها بحذر، على رغم تشجيعه الحريري عليها، وكذلك حزب «القوات اللبنانية» الذي نادى بها جهاراً وتكراراً، واستعجلها باستقالة وزرائه غداة انطلاق الحراك الشعبي في 17 من الجاري.

القراءة الأولية لدى عون وقيادة «حزب الله» هي انّ الحريري رمى الاستقالة في ملعبهما، وقيل إنه استبَقها بمصارحة رئيس الجمهورية بأنه لم يعد في إمكانه تَحمّل بقاء الوزير جبران باسيل في الحكومة اذا تمّ تعديلها، أو في حال الذهاب الى حكومة جديدة، خصوصاً انّ الشكوى منه تتعاظم لدى حلفائه قبل خصومه. وهذا الموقف الحريريّ كان كافياً لعدم حصول التعديل الحكومي، وربما سيمنع تأليف الحكومة الجديدة أو يؤخّره إذا أُريدَ استبعاد باسيل عنها، او اذا أريدَ أن تكون مكوناتها غير متضمنة ممثّلين مباشرين للقوى السياسية.

وثمّة قراءة ثانية تقول إنه في حال تبيّن انّ استقالة الحريري استندت الى نصيحة خارجية أو خارجية ـ محلية، فإنّ هذا يعني انّ قوى خارجية، وتحديداً الولايات المتحدة الاميركية، دخلت في لحظة ما على خط الحراك الشعبي لتستفيد منه في أجندتها، والتي يوجد ضمنها الاستمرار في المواجهة ضد عهد عون وحليفه «حزب الله» والمحور الاقليمي الذي ينتمي إليه، ولكن هذه المرة عبر استغلال وجع الناس المعيشي. ما يعني عملياً انّ تكليف شخصية تأليف حكومة جديدة سيتأخر، وان لم يتأخر هذا التكليف فسيتأخر التأليف، ما يُبقي البلاد في ظل حكومة تصريف أعمال الى أمد غير محدد، ويزيد من خطر انزلاقها الى الانهيار الاقتصادي والمالي المتخَوَّف منه.

لكن ما يَرشح من أوساط المرجعيات الرسمية والسياسية انّ البلاد لا تتحمل فراغاً حكومياً، وانّ خطر الانهيار جدي وليس مبالغاً به لغايات سياسية، وفق ما يردد البعض. ولذلك، لن يتأخر التكليف حتى لا يتأخر التأليف. علماً أنّ لدى البعض انطباعاً مفاده أنّ الأزمة ما تزال تحت السيطرة رغم كل ما يجري، لأن لا مصلحة للقوى الداخلية والخارجية في تَدحرج لبنان الى مُنزلقات خطرة.

ويرشح من أوساط الحريري أنه يقبل بإعادة تكليفه لتأليف حكومة جديدة، ولكن لديه شروط، منها أن يُستبعَد منها إعادة توزير بعض وجوه حكومته المستقيلة، وأن يغلب عليها الطابع التكنوقراطي ولو بلباس سياسي.

لكنّ سياسيين متابعين يقولون انه إذا كان المطلوب مراعاة مطالب الحراك الشعبي لجهة نوعية الحكومة ومواصفات وزرائها من حيث الكفاية والاختصاص، فإنّ ذلك لا يجب ان يفرض عدم مراعاة «اتفاق الطائف» الذي يقضي بأن تكون الحكومات بعده حكومات وفاق وطني تتخذ قراراتها بالتوافق، واذا تعذّر ذلك بالتصويت بالأكثرية المطلقة، امّا القرارات المصيرية والمحددة في الدستور فستتخذ بموافقة أكثرية الثلثين الوزارية.

رئيس الجمهورية يتحدث عن انّ الحكومة الجديدة ستكون «حكومة نظيفة»، هي بالطبع ستكون حكومة سياسية، حسب «الطائف»، ولكن الرئيس يقصد بالنظافة أن يكون رئيسها والوزراء ممّن يتمتعون بالكفاية والسيَر الحسنة.

وفي البحث عمّن سيتولى رئاسة الحكومة الجديدة، لم يحسم في الاتصالات والمشاورات الجارية أيّ خيار بعد، ومنه خيار إعادة تكليف الحريري، ولكن في ظل استبعاد فكرة الذهاب الى تأليف حكومة أكثرية، وكذلك استبعاد تسمية شخصية سياسية من هذه الأكثرية، ويمكن أن يعتبرها الآخرون مُستفزّة، يجري استعراض أسماء متعددة من نادي رؤساء الحكومة وبعض الشخصيات التي تُحاكي مطالب الحراك الشعبي ومزاجه.

وفي هذا السياق يرى المراقبون انّ الحراك الشعبي، وبغَضّ النظر عن طبيعة مكوّناته، عَبّر في انطلاقته وأهدافه عن انّ الناس لم يعد في إمكانها تَحمّل الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية المتفاقمة. ولذلك، باتَ على السلطة ومعها القوى السياسية عموماً، أن تُعير هذه الازمات الاهتمام المطلوب، وعدم الاكتفاء بمراعاة العلاقات السياسية في ما بينها، فما حصل يفرض من أعلى هرم السلطة الى أسفله إجراء مراجعة شاملة وجدية لكلّ ما جرى. فالجميع استهانوا واستخفّوا بوَجع الناس طويلاً، فجاء الحراك ليلفتهم الى خطورة الاستمرار في هذا النهج لأنّ «ألسنة الخلق سيوف الحق».

لذا، فإنّ الحكومة الجديدة يجب أن يُراعى في تأليفها أن تكون قادرة على اتخاذ اجراءات تُرضي الجيل الشاب الغاضب، بحيث تتخذ، على الاقل، بضعة خطوات إصلاحية، لأنّ الفساد في لبنان يمكن رؤيته بالعين المجرّدة من دون حاجة الى تفتيش وتمحيص وتحقيق. وفي هذه الحال، تبدو مكافحته سهلة، إذ يكفي أن تَستدِلّ إليه من «فيلا» بَناها موظف راتبه معروف، أو من سيارة فارهة اشتراها، لتسأله من أين لك هذا؟ حتى تعرف من أين جاء بالمال.