عبدالمهدي لن يتمكن من الخروج من مأزقه الحالي دون الاستجابة الكاملة لمشروع الشعب وانتفاضة شبابه للتغيير، وإن أراد أن يكون جزءا منه فعليه التخلي عن جميع ارتباطاته الأيديولوجية التي وفرت له فرصة المجيء على رأس الحكومة.
 

عادل عبد المهدي ليس متهما في محكمة خاصة، وإنما هو حاكم العراق لأربع سنوات حسب النظام العراقي انتهت منها سنة واحدة بلا إنجاز. قدمّ عبدالمهدي صيغة سياسية من الاعترافات في خطبته في وقت متأخر من ليلة 25 أكتوبر الجاري، حيث الجولة الثانية من انتفاضة الشباب التي بدأت الأول من أكتوبر الماضي في مدن الوسط والجنوب، بابل والناصرية وكربلاء والديوانية والبصرة وبغداد، التي أعادت دماء الشباب حياتها بعد أن غمرها الموت والجفاف لستة عشر عاما.

اعتقد عبدالمهدي في خطابه، الذي قد يكون الأخير، أنه يمتلك مساحة لا بأس بها للتحرك واللعب بمفردات السياسة بعيدا عن أحكام أيديولوجيا الأحزاب الدينية الشيعية رغم أنه كان واحدا من بينها، فقدم الاعتراف الأول وهو أن “الأزمة في العراق هي أزمة النظام السياسي لم تدركها القوى السياسية لكن أدركها الشعب”، لكنه ناقض نفسه بتمسكه بالسلطة وغلق الطريق أمام الشعب لتوفير الأرضية السياسية لتغيير النظام فقد تعاطى بذات العبارة التي عادة ما استخدمها الطغاة والدكتاتوريون؛ إما أنا أو الفوضى، فقال “استقالة الحكومة دون توفير البديل ‏الدستوري معناه ترك البلاد للفوضى”.

كان عبدالمهدي بحاجة إلى أن يكون صادقا مع طروحاته الثورية وأن يخطو الخطوة العملية ويمهد الطريق للتغيير الحقيقي. لقد زعم أنه اكتشف الحقيقة الجديدة لانتفاضة شباب العراق وسمح لنفسه بأن يقدم خلاصة للواقع المرّ من انعدام الخدمات وتراكم الأمية والفقر والفساد، وحاول أن يقدم منظورا فاضحا للحكومات السابقة بأنها تسببت في كوارث احتلال تنظيم داعش لثلث الأراضي العراقية في الموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى، وكذلك جريمة سبايكر كلها شكلت من أجلها لجان تحقيق دون أن تعلن نتائجها لحد اليوم، وهو بذلك قدم صورة مجتزئة للواقع قطعها بتاريخ عهده قبل عام واحد، واعتقد أنه حقق إنجازا في تشكيل لجنة تحقيق لم تعلن من هم الجناة الذين قتلوا 157 عراقيا وأكثر من ثلاثة آلاف جريح خلال سبعة أيام.

وكان رأي الشعب في هذه اللجنة واضحا قبل أن تدينها مرجعية النجف الجمعة الماضية، التي قالت إن “التقرير المنشور عن نتائج التحقيق فيما شهدته التظاهرات السابقة من إراقة للدماء وتخريب الممتلكات لم يحقق الهدف المترقّب منه، ولم يكشف عن جميع الحقائق والوقائع بصورة واضحة للرأي العام”.

كان خطاب عبدالمهدي حديث باحث سياسي واقتصادي وليس حاكما، وهو يعلم أنه ليس مطلق اليد في سياساته، فما أعلنه عن نيته إجراء تعديل وزاري خارج المحاصصة سيصطدم بجدار الأحزاب المهيمنة داخل مجلس النواب، والتي لم تغادر لعبة المحاصصة حتى وإن تحول العراق إلى نهر من الدماء. هو يعلم أن الأحزاب سمحت له بحدود أن يأخذ راحته بالحديث وفق مفردات سياسية تقليدية أخرجها من قاموسه القديم، مثلما يخاطب الجمهور المنتفض “خذوا راحتكم في التظاهر.. تكلموا ما تشاؤون فأنا والحكومة نحميكم”، ولكن بعد ساعات من انتهاء خطابه خرج الألوف من المتظاهرين في الجولة الثانية من الانتفاضة، وتم قتل أكثر من 80 شهيدا وألفي جريح خلال عشر ساعات فقط.

وعرضت أفلام لقتل شباب عن طريق القنص، كما جرفت سيارة مصفحة عسكرية بمدينة البصرة مجموعة من الشباب المتظاهرين بلا رحمة، كما أنه كرر الحديث النظري عن ملف حصر السلاح بيد الدولة، ووعد الشعب منذ تسلمه الحكم قبل عام بتنفيذ ذلك لكنه اصطدم بقوة أحزاب وميليشيا الممانعة، التي ترفض الخضوع لهذا الإجراء.

هذه الكلمات لم ترق إلى مستوى الأخطار التي تهدد حياة شعب العراق وهي لا تعالج أزمة النظام حسب اعترافه، فالمشكلة الرئيسية التي لا يريد عبدالمهدي الاعتراف بها أن التظاهرات تعبير عن عدم الثقة بالنظام السياسي وليست حكومته فقط، وأن الشباب العراقي حتى وإن راهنوا على تعبه من جهد التظاهر لأيام فإنه لن يستسلم.

إن اختصار القضية على مجموعة من الحزم الترقيعية لا يداوي حالة الانهيار الذي يواجهه النظام السياسي في تفكك بنيته التنظيمية والفكرية، فبدأ الكثير من قادة الأحزاب يحاولون التعبير عن براءتهم من السلطة وهم رعاتها، وأخذوا يسعون إلى تمرير حلول إقالة حكومة عادل عبدالمهدي، متوهمين أن ذلك سيهدأ غضب الشعب، مثلما لوحظت دعوات كل من مقتدى الصدر وعمار الحكيم وحيدر العبادي مقابل تمسّك هادي العامري بعادل عبدالمهدي مرحليا، إلى جانب مجموعة قادة الفصائل المسلحة المدعومة من طهران التي تراقب الوضع من بعيد، ولم تمد يدها بقوة لحد اللحظة، ولا تريد حرق أصابعها طالما هناك من مستعد أن يحترق من أجل الحفاظ على مشروعها الإقليمي وهلالها وقلبه العراق.

وقد يكون استثمار الضحية عادل عبدالمهدي إلى أقصى حد هو التكتيك الحالي لاستكشاف التطورات التي ستؤدي إليها الاحتجاجات. ولعل حالة عبدالمهدي لا تختلف كثيرا عن حالة صاحب “العهد” ميشيل عون رئيس لبنان الذي حاكى في خطابه عبدالمهدي. فثورة الشعب اللبناني تتفاعل، زمنيا وموضوعيا، مع انتفاضة الشباب العراقي. فكلاهما يواجه خصما خارجيا محركا للأحداث في البلدين هو طهران، وكان زعيم حزب الله حسن نصرالله أكثر شجاعة من رفاقه قادة الميليشيات والأحزاب في العراق في المواجهة العلنية المباشرة، حيث حذر من “المؤامرة الخارجية التي تديرها أميركا وبعض السفارات الخليجية”، ما اضطر حزب الله العراقي إلى التجاوب مع تلك الخطبة بنفس اليوم في بيان مماثل في وصف المظاهرات العراقية، وتناغمت هذه الاتهامات مع ادعاءات مستشار رئيس المجلس النيابي الإيراني حسين أمير عبداللهيان، الذي اتهم “الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية بأنها تسعى إلى زعزعة أمن واستقرار العراق وإسقاط الحكومة المنتخبة وتهيئة الأجواء للتدخل الأجنبي”.

ولا أعتقد أن عبدالمهدي سيتمكن من الخروج من مأزقه الحالي دون الاستجابة الكاملة لمشروع الشعب وانتفاضة شبابه للتغيير، وإن أراد أن يكون جزءا منه عليه التخلي عن جميع ارتباطاته الأيديولوجية التي وفرت له فرصة المجيء على رأس الحكومة، فمن يريد أن يكتب له التاريخ صفحة نظيفة عليه التخلي عن جميع المظاهر والامتيازات.