يبدو واضحاً أنّ عمق المشكلة ليس في الفساد فقط. لو لم تكن هناك تداعيات سياسية، بل استراتيجية، للحرب على الفساد لربما كانت المعادلة مختلفة. فـ»حزب الله» يربط بين أحداث لبنان والعراق وسوريا واليمن، ويقول إنّ الحرب على الفساد هي عنوان لاستهداف «الحزب» نفسه، لا أكثر.
 

ليست مشكلة «حزب الله» في مطالب التغيير التي يرفعها الحراك الشعبي. وأساساً معروف عن «الحزب» أنّه أكثر الساعين إلى إحداث تغيير في النظام، لكن المشكلة أنّ المطروح اليوم لا يناسبه، لا في التوقيت ولا المضمون.

يحرص «الحزب» على إظهار أنّه الأبعد عن التلوّث الذي يضرب مؤسسات الدولة. وحتى معادلة الحكم القائمة حالياً، أي صفقة 2016، قامت على مقايضة بين طرفين:

الأول هو «حزب الله» الذي يكون له القرار في الأمن والسياسة الخارجية، والثاني هو «الآخرون»- أي القوى المحلية النافذة، مسيحية وشيعية وسنّية، الذين لا يتعاطون في اختصاص «الحزب»، مقابل السماح لهم بتقاسم الحصص والمغانم داخل المؤسسات، بدءاً بالوزارات وانتهاء بالمصالح والأجهزة والمرافق العامة.

وهذا التوزُّع داخل المعادلة أبقى «الحزب» في منأى عن شبهة الفساد، وحافظ على صورته كمقاوم ضد إسرائيل، فيما ينشغل الآخرون بالدفاع عن أنفسهم ضد اتهامات جدّية بارتكاب أنواع مختلفة من الفساد وتجاوز القوانين. وفي غالب الأحيان، لا يستطيعون إثبات براءتهم منها.

عندما يخرج المنتفضون في الشارع ويطالبون بإنهاء الفساد، ويطالبون بإسقاط التركيبة الملوَّثة بالفساد، فإنّهم عملياً يطالبون بإسقاط التركيبة التي يعقد «الحزب» معها صفقة السلطة. وإذا سقطت، يصبح هو أيضاً أمام استحقاق بناء السلطة في لبنان. وبالنسبة إليه، هذا استحقاق سياسي شديد الدقَّة، خصوصاً في هذه المرحلة.

فالنهج الذي تتبعه الحكومة الحالية ينسجم تماماً مع «حزب الله» والمحور الإقليمي الذي ينتمي إليه. ولذلك، تعرّض الرئيس سعد الحريري لضغوط شديدة في فترات مختلفة، لثنيه عن هذا النهج، لكنه ما بدّل تبديلاً لأسباب معروفة.

ولذلك، يستشرس «الحزب» في دفاعه عن شركائه جميعاً، «ظالمين كانوا أم مظلومين». وعلى الأرجح، هو مُحرَج جداً في هذه المهمَّة لأنه منذ سنوات لا يتلكأ عن كشف التقارير والوقائع البالغة الخطورة عن الفساد داخل وزاراتٍ أو مصالح عامة أو مرافق يتولاها الشركاء وجماعاتهم.

وفي «معارك الفساد» داخل مجلس الوزراء، تحالف «الحزب» مع «القوات اللبنانية» أحياناً. ولذلك، يبدو صعباً عليه الدفاع عن هؤلاء الشركاء ضد شبابٍ يرفعون في الشارع مطالب بمحاسبة الفاسدين وبناء دولة نظيفة. وهذا مطلب لا يختلفون عليه حتى مع جمهور «الحزب».

 
 

لذلك، إنّ «حزب الله» محشور بالصفقة التي عقدها في 2016، وبـ«ملهاة الحصص» التي تركها للآخرين كي يتفرّغ هو لمهماته الاستراتيجية. وهو «مرغَمٌ لا بطل» على حماية التركيبة التي تؤمِّن له تغطيات داخلية وخارجية يحتاج إليها.

طبعاً، يجدر التذكير بأنّ واشنطن وقوى دولية تعتبر العقوبات على «حزب الله» في لبنان جزءاً من السعي إلى تحقيق الشفافية وضرب الفساد، خصوصاً المالي. وهي تتجّه إلى وضع لبنان الرسمي كله في جريرة «الحزب»، إذا استمرّ في نهجه الحالي. ومن هنا يمكن إدراك لماذا يسارع الخليجيون إلى نجدة لبنان بالمليارات الموعودة، هذه المرّة.

ولكن، على رغم كل الضغوط، وحتى عندما أصرَّ الفرنسيون على أن تلتزم الحكومة اللبنانية شروط الإصلاح شرطاً للإفراج عن مساعدات «سيدر»، بقي الطاقم السياسي يماطل ويهرب من هذا الاستحقاق. ولم يقُم «حزب الله» بأي خطوة «ترغم» الشركاء على التزام الإصلاح، لأنه يخشى سقوط التركيبة.

وفي ظلّ هذا «التزاوج» بين منظومة المصالح الاستراتيجية الكبرى والمصالح الصغرى، يصبح بديهياً أن يخاف «حزب الله» من الحراك الشعبي لا في مسألة الفساد، بل في التداعيات السياسية.

ولا يريد «الحزب» أن يكون اقتلاع الفساد هو الطريق لاقتلاع التركيبة السياسية التي يرتكز عليها. هذا تحديداً فحوى ما يقصده أمينه العام السيد حسن نصرالله عندما يتحدث عن أبعاد خارجية تكمن وراء الحراك. والتزامن الدقيق بين حراك لبنان وحراك العراق هو الدليل القاطع في رأيه.

في أي حال، لا يمكن إنكار هذا الترابط. فعناصر المواجهة هنا وهناك هي إيّاها تماماً. وما سيقود إليه الحراك هنا هو الدليل إلى ما سيذهب إليه الحراك هناك، والعكس صحيح.

وفي لبنان والعراق، تبدو المواجهة الحقيقية سياسية في الدرجة الأولى، لا اجتماعية- اقتصادية. إنها فصل حاسم من «الكباش» بين الولايات المتحدة وإيران.
وتواكبه الفصول الساخنة التي لم تكن متوقعة قبل أسابيع، بدءاً بدخول الأتراك إلى الشمال السوري بموافقة أميركية- روسية وما تلاها، وانتهاء بالإعلان عن اغتيال إبو بكر البغدادي، مروراً بالاتفاق على اليمن في جدّة… في أحضان المملكة العربية السعودية.

وثمة من يعتقد أنّ المواجهة الجارية على مستوى الرقعة الشرق أوسطية ستفرز حلولاً ومشاهد جديدة في كل النقاط. وعلى الأرجح، يميل الرئيس دونالد ترامب إلى عقد الصفقات لا إلى فتح الجبهات. وربما سيكون أمام طهران أن تدرس حساباتها جيداً لتقرّر أين تربح وأين تخسر وأين تحافظ على ما لها.

قد تأخذ طهران في العراق وتعطي في لبنان مثلاً، وتخرج بلا خسائر مهمة في سوريا. أو ربما تكون الصورة مغايرة لذلك تماماً. لكن الأرجح أنّ أمراً ما يحدث في الشرق الأوسط وسيترك تأثيرات مهمّة. الآن، نحن في خضم عملية الإنضاج. ومن هنا يمكن النظر إلى ما سيقود إليه الحراك الجاري في لبنان، أو «ربيع لبنان». والباقي تفاصيل.