تمهيد...
يئنُّ اللبنانيون منذ أكثر من ثلاثين عاماً من وطأة نهب المال العام، وللأسف الشديد لم يهتدوا حتى الآن إلى حلولٍ شافية لهذه المعضلة، وفي تاريخ الإسلام المُبكّر فصولاً مُعبّرة عن فداحة ومخاطر مدّ اليد لنهب المال العام، الذي يُجمع من الناس ليوضع في خدمة الناس.
أولاً: عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه...
 
من أوائل الذين تصدّوا في الاسلام المبكر لنهب المال العام من بيت المال أو بيت مال المسلمين كما أصرّ على ذلك الصحابي أبو ذر الغفاري، هو الخليفة عمر بن الخطاب الذي تنبّه باكراً إلى مخاطر تعيين الأشراف القبليّين التقليديين في تولّي المناصب في الولايات المفتوحة، بل عمد إلى تعيين أُناسٍ من أصولِ متواضعة، ذوو ماضٍ إسلامي مثل عمار بن ياسر، عبدالله بن مسعود، عتبة بن غزوان، أبو موسى الأشعري، وكان عمر قد ذهب إلى حدّ منع أبرز الشخصيات من بين المهاجرين والأنصار من الإقامة في الولايات والامصار، وكان عملياً يحتجزهم في المدينة المنورة، وعلى هذا النحو كان كبار الصحابة تحت نوع من الرقابة،  خوفاً من استقطابهم للولاءات حول أشخاصهم. 
وكان عمر قد ضرب بيدٍ من حديد على أيدي الفاسدين من الولاة الذين اشتبه في وقوعهم في ارتكاب كبائر السطو على المال العام، فشاطرهم أموالهم وممتلكاتهم(أي صادر نصف ما يملكون لصالح بيت المال، فدعا أبا موسى الأشعري، وكان والياًعلى البصرة، فقال له عمر: ما جاريتان بلغني أنهما عندك، إحداهما تدعى عقيلة والأخرى من بنات الملوك؟ قال: أمّا عقيلة فجارية بيني وبين الناس، وأمّا التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء، قال: فما جفنتان( الجفنة قِدر الطعام ) تعملان عندك؟ قال: رزقي شاةٌ في كل يوم،  فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية، قال: فما مكيالان بلغني أنهما عندك؟ قال: أمّا أحدهما فأوفي به أهلي ودَيني، أمّا الآخر فيتعامل به الناس، قال: ادفع لنا عقيلة، والله إنّك لمؤمن لا تغُل أو فاجرٌ مُبلّ، ارجع إلى عملك عاقصاًبقرنك مُكتسعاً بذنبك، والله إن بلغني عنك أمرٌ لم أُعدك. 
 
 
ثمّ دعا أبا هريرة فقال له: هل علمت من حين استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثمّ بلغني عنك أنّك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار؟ قال: كانت لنا افراس تناتجت،  وعطايا تلاحقت، قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضلٌ فأدّه، قال: ليس لك ذلك، قال: بلى والله وأوجع ظهرك، ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه،ثم قال: إيتِ بها.
ودعا عمرُ الحارثَ بن وهب،  وقال: ما قلاصٌ وأ عبُدٌ بعتها بمائتي دينار؟ قال: خرجتُ بنفقةٍ معي فتجرت فيها،  فقال: أمّا والله ما بعثناكم لتتّجروا بأموال المسلمين، أدّها، فقال له: أمّا والله لا عملتُ عملاً بعدها، قال عمر: انتظر حتى أستعملك. 
وكتب عمر لعمرو بن العاص وكان عامله على مصر: بلغني أنّه فشت لك فاشية من خيلٍ وإبل ٍوغنم وبقرٍ وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك، فاكتب إلي من أين أصل هذا المال ولا تكتمه، وقد بعثتُ إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك، فإنّكم أيها الرهط الأمراء جلستم على عيون المال، لم يعوزكم عُذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهدون لأنفسكم، أمّا إنّكم تعملون العار وتورثون النار، فلما قدِم عليه محمد بن مسلمة فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك الأخرى. 
ثانياً: الخليفة الثالث عثمان بن عفان والأموال المنهوبة...
 
في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان انقلبت الأمور رأساً على عقب، ففي السنوات السّت الأولى من ولايته، أكمل عثمان برنامج عمر بن الخطاب في الفتوحات الإسلامية، والتي طالت التراب الإيراني بكامله، فضلاً عن غزوة أفريقيا(٢٧ هج، ٦٤٨م) وستشهد الخلافة الإسلامية بداية تدفّق الثروات، وتكدّس اختلالات التوازن وتراكمات الذهب والفضة والأحجار الكريمة، كان بيت مال الخليفة يغصّ بالمال بعد عشر سنوات من الفتح المتواصل، كان يتغذّى بخُمس الغنائم، كما أنّه كان يتغذّى من صدقات الجزيرة العربية، من ضرائب الزكاة المفروضة على الماشية، وكان بيت المال يتغذى بقسمٍ من الفيئ،  وبخلاف ولاية عمر بن الخطاب الذي كان حازماً في حفظ المال العام كما أسلفنا، أمّا عثمان بن عفان فقد أراد أن يكون مرناً، أو أكثر ليبرالية بلغة عصرنا،  فسمح للصحابة بأن يتاجروا في الولايات والامصار والخروج من المدينة، وكسرَ الانغلاق الذي كان مفروضاً عليهم، والخليفة ذاته أباح لنفسه ما كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب قد حظراهُ على نفسيهما، فأخذ من الخزينة العامة مالاً لنفسه، ولعائلته،  ولمن أراد مساعدتهم ومكافأتهم بلا رقيبٍ ولا حسيب، فاقترض من بيت المال مبالغ ضخمة لم يُرجعها دائماً، وربما تاجر بها واقرضها أو وهبها لآخرين، فتكوّنت ثروات ضخمة في أوساط الأمويين من أقربائه لا يمكن تفسير مصدرها إلاّ بقروضٍ وتسهيلات من بيت المال، وكانت أموال الخليفة الثالث عثمان بن عفان الشخصية حسب رواية المسعودي قد وصلت إلى ماية وخمسين الف دينار ومليون درهم،،أمّا أملاكه غير المنقولة في وادي القُرى وحنين وسواهما تساوي مائة ألف دينار، صحيح أنّ عثمان كان رجلاً غنيّاً في الجاهلية،  لكن ثروة الماضي غير قابلة للقياس بثروات الحاضر.
كان طلحة مع الزبير من أكثر الصحابة ثراءً ونعمة، فقد ترك طلحة عند وفاته أملاكاً منقولة بستماية ألف دينار ذهب، وأكثر من مليوني درهم، وقُدرت ثروته بثلاثين مليون درهم، كان سخيّاً، يساعد عشيرته تيم، ويرسل إلى السيدة عائشة أرملة النبي عشرة آلاف درهم سنوياً، امّا عبدالرحمن بن عوف وهو صحابيٌ آخر وشخص مركزي في الشورى، قد ترك بعد وفاته ألف جمل،وثلاثة آلاف رأس غنم، ومئة حصان، وأراضٍ سوقية بمساحات واسعة، وسبائك ذهبية تُكسّر بالفأس، وربما كان الزبير أغنى الجميع، كان وحده يلعب دور مصرف(أمانات )، وقُدّرت ثروته بأكثر من أربعين مليوناً من الدراهم أو خمسين مليوناً حسب رواية أخرى. وكان في حوزته غابات واراضٍ وأحد عشر داراً في المدينة، وعقارات في الكوفة والفسطاط والاسكندرية.